ارتجالية مفهوم السحر في الدراسات الأنثروبولوجية

السحر

ارتجالية مفهوم السحر في الدراسات الأنثروبولوجية

ترجمة: محمد اسليم

[I – السحـر عالم ثالـث غير محقـق]

يحيل السحر[1] باعتباره أحد مفاهيم الخطاب الأنثروبولوجي المعاصر على مجموعة من الممارسات والتمثلات التي نادرا ما يتم تحديدها. وقد تأسس استعمال هذا المصطلح، من باب التعريف، على نوع من الموضعة الخلافية حيث تمت مقارنة السحر بمجموعتين من الممارسات هما العلم والديـن . ففي هذه الموضعة يبدو وكأنه من الثابت أن هذه المصطلحات الثلاثة [العلم، الدين، والسحر] تشكل حقلا دلاليا يقع السحر فيه بين العلم و الدين، بين مصطلحين قطبيين يؤخذ تقابلهما على أنه تقابـل واضح وجلي.

 

لدى قراءة كتابات الأنثروبولوجيين نحس كأن طموحهم لا يتجاوز تحديد المسافة الفاصلة بين السحر و العلم من جهة، و الدين من جهة أخرى. وبذلك تراكمت تعريفات السحرالسَّالبة دون أن تجلو غموض هذا المفهوم المرتجل. فالسحر في تلك التعريفات إما علم مجهض لاعقلية له أو دين شاذ لا لاهوت له. وسنؤاخذ على المؤلفين الذين سنذكرهم عماهم الملحوظ فيما يخص الطبيعة السياسية الواضحة للتقابل الذي يقيمونه بين العلم والدين داخل حرب بينهما غامضة، اتخذت طابعا ضاريا في بعض الأحيان. وما أشبه تقاسمهما للمسؤوليات الإيديولوجية حاليا بيالطة فكرية يبدو السحر فيها بمثابة عالم ثالث غير محقق أو ممارسات وتمثلات لم يعلن لا العلم ولا الدين مسؤوليته عنها. فهو ممارسات غرائبية أو منحدرة من ديانات مصغرة لاتحظى بالإحترام، أو علوم منسية ومكذبة، أو هو ضرب من علـم ماوراء النفـس.

لقد أجمل إدموند ليتش تاريخ مفهوم السحر في الخطاب الأنثروبولوجي للنصف الثاني من القرن XIX في ما يلي:

«لقد تم تمييز العلم قبل كل شئ باعتباره معرفة وفعلا مؤسسين على التقييم الـ «صحيح» للعلة والنتيجة لأن مسألة تعيين ما هو صحيح موكولة لقياسات المنطق الأرسطي وللحتمية الميكانيكية للفيزياء النيوتنية. وماتبقى سمي خرافة. وآنذاك تم التمييز بين الخرافة أو التطير وبين الدين، وكان تعريفه الأدنى يختلف من مؤلف لآخر (فتايلور مثلا يعرفه بأنه «الإيمان بكائنات روحية»). والباقي سمي سحرا» )بحث غير منشـور(.

كثيرا ما يبدو السحر في الخطاب الأنثروبولوجي بمثابة ظل للعلم أكثر منه ظل للدين، ذلك أن الملاحظين لم يفتهم تسجيـل وجود انشغال لدى الممارسات السحرية بمسألة الفعالية مختلف عـن الانشغال الديني المألوف لدينا. فالدين يبدو فعلا أنه يكتفي بفعالية غيـرمتصلة لكنها دالة فرديا: إنها فعالية المعجزة المدهشة، فعالية الصلاة الباطنية. وقد يبدو أن النجاح الذي يلقاه مصطلح «السحرديني (magico- (religieux» في الخطاب الأنثروبولوجي (ماريط، 1907) يفند ما قلناه تـوا. نحن نرى بالأحرى في استعماله نية وضعية سجالية ترى في السحر والدين نفاية إجمالية للعلم.

ينتابنا الانطباع أحيانا بأن الأنثروبولوجي يلوم على السحـر كونه ظاهرة – أو على كونه ينظر لظاهرة – لاتستطيع البقاء في مستوى ما تزعمه. غير أنه ليس هناك أنثروبولوجي واحد ساذج بحيث يعرف السحر باعتباره ممارسة عديمة الفعالية، لأن السحـر وإن لم يكن له حـق الفعالية فهو قادر على أن يكون فعالا في الواقع حتى وإن كانت فعاليته من نـوع خاص.

سنتطرق في هذا البحث إلى موضوعين: الأول ضرورة معرفة السحر باعتباره نفاية لخطاب العلم، والثاني: كون السحر يقبل هذا الإقصاء لاتصافه بسمتين لا يطيقهما العلم: الأولى تتمثل في كون الخطاب السحري خطاب نحو الشخص ad personam وممارسته تتعلق بقدرفردي، والثانية في كون النفسية الفردية هي مكان الفعالية السحرية المفضل.

[II – العلــم والسحـــر]

لقد أخطأ إيفانس بريتشارد لما كتب: «بينما لا يرى الحس المشترك إلا بعض الروابط داخل سلسلة سببية، يرى العلم أكبر عدد منها إن لم يكن يراها جميعا»(إيفانس بريتشارد، 1937: 12). فالسحر في الواقع يستدعيها جميعا، لكنه لايفعل ذلك أبدا بشكل دائم، بل يقوم به فقط عندما يتعلق الأمر بحل مشكل فردي، بحل مصيبة بكاملها لحقت برجل أو بامرأة. ذلك أن موضوع السحر يوجد دائما في حالة تناغم أو طلاق مع العالم المحيط به، في حالة حظ أو سوء حظ. ففيما لايريد العلم أن يرى في التصادمات المأساوية لمختلف السلسلات العلية سوى محض تصادفات، لايستطيع الأفراد الذين يقعون تحت طائلة تلك التصادمات أن يروها إلا مبنينة حسب مبدأ ما تحمله من مصائب، كما أنهم يعرفون كيف يجعلونها محملة بدلالات. أما الخطاب السحري فيتجاوز ابتذالية الملفوظات العامة إلى الإدلاء بـرأيه في فرادة القدر الفردي. ولهذا فهو يعترف بفعل الضغوطات العرضانية، والروابط «السانكرونية» التي ربما أراد يونغ (1972) إعادة إدخالها باعتبارها مبدأ تفسيريا للمواقف التي يجد بعض الناس أنفسهم فيها مورطيـن.

لذا، فقد كان ليفي ستراوس على صواب عندما انتقد إيفانس بريتشارد قائلا:

« …ألا يتميز الفكر السحري («هذا التنويع الهائل من التقاسيم على مبدأ العلية» كما قال هوبر وموس [1902-1903؛ 61]) عن العلم بتشدده وتصلبه في طلب الحتمية بشكل يفوق هذا الأخيروليس بجهله هذا المبدأ واحتقاره إياه؟ وأمام هذا الجنوح ماذا بوسع العلم أن يفعل – في أقصى الحالات – تجاه هذا الفكر سوى اتهامه بالتسرع وبمجانبة الصواب؟» (ليفي ستراوس، 1962؛ 18).

[III – مبدأ العلية بين العلـم والسحـر]

يجيب العلـم عند الاقتضاء عن السؤال: «لماذا يحدث ذلك؟»، لكنه يجبرنا على التسليم بكوننا محرومين من الحصول عن السؤال: «لماذا يحدث لي ذلك؟». أما السحر فهو يقبل أن يجيب عن هذا السؤال. ويمكننا أن نوضح هذه الفكرة بمثالين. أولهما غرائبي، والثاني مستمد من تاريخ العلم.

المثال الأول سنستعيره من إيفانس بريتشارد، وهو عبارة عن حكاية وردت مرتين في كتابه بطبعتيه (1937 و 1951). وقد اخترنا أن نسوق الرواية الأولى، رواية طبعة 1937، التي تعد تمرينا رائعا من تمارين «ترجمة الثقافة».

«يحدث أحيانا في بلاد الأزاندي[2] أن ينهار قبو عتيق. وهذا أمر ليس فيه ما يدعو للإستغراب. فكل زاندي يعرف أن ديدان الخشب تنخر الدعائم، وأن حتى أشد الأخشاب صلابة تقع تحت طائلة الفساد مع طول الزمن. والقبو بناء ثقيل مشيد بالعوارض والطين . إنه مسكن العائلات الزاندية. فهو خلال فصل الصيف يشكل في وقت الهجيرمكانا للجلوس، والثرثرة، ومزاولة لعبة الثقوب الإفريقية، ومزاولة بعض الأشغال الحرفية. كما أنه المكان الذي تخزن فيه الذرة البيضاء. وبذلك يمكن أن يكون بعض الأفراد جالسين تحته لحظة انهياره. لماذا كان أولئك الأشخاص أنفسهم جالسين تحت القبو لحظة سقوطه بالضبط؟ أن ينهار القبو فذلك أمر يسهل فهمه، لكن لماذا سقط في ذلك الوقت بالضبط، عندما كان أولئك الناس بعينهم هم الجالسين تحته وليس أشخاص آخرون؟ لقد كان بوسعه أن يسقط في أي وقت آخر، وإذن فلماذا لم يسقط إلا عندما كان بعض الناس يتفيأون ظلاله؟ نقول: لقد سقط القبو لأن ديدان الخشب كانت قد نخرت دعائمه وفصلتها عن بعضها. ذاك هو السبب الذي يفسر انهيار القبو. نقول أيضا: لقد كان أشخاص يوجدون تحت سقفه في ذلك الوقت لأن الوقت كان وقت هجير، ولأن بعضهم قال لبعض: «تعالوا نتجاذب أطراف الحديث ونعمل في مكان مريح». ذلك هو سبب تواجد أناس تحت القبو ساعـة سقوطـه. إن أي طريقة في فهم الأشياء مماثلة لطريقتنا سترى أن العلاقة الوحيدة الموجودة بين هذين الحدثين، الذين تستقل أسبابهما عن بعضها، إنما تكمن في تصادفهما في الزمان والمكان. فنحن لانفسر لماذا تقاطعت السلسلتان السببيتان في لحظة معينة وفي مكان معين ما دام لايوجد بينهما ترابط. أما الفلسفة الأزاندية فهي تتوفر على الرابط الغائب. فالأزاندي يعرف أن ديدان الخشب قد نخرت الدعائم شيئا فشيئا، وأن الناس كانوا جالسين تحت القبو فرارا من حرارة الشمس، لكنه يعرف فوق ذلك لماذا تولدت هاتان الظاهرتان بالضبط في لحظة زمنية واحدة. لقد تولدتا بسبب السحر» (إيفانس بريتشارد، 1937؛ 69-70).

يمكن للعلم أن يتنبأ بماهو خاص بمعنى أنه يستطيع التصريح بمستقبل موضوع من المواضيع مأخوذ داخل سلسلة من الأشباه والنظائر، لكنه يرفض التنبؤ إذا تعلق الأمربقدر موضوع مفرد. وهو في ذلك يلعب بكيفية مربحة، من زاوية ما، بما أنه لايجيب أبدا عن الأسئلة التي لايطرحها هو نفسه بعد أن يحصر موضوعها بطريقة تحافظ على المعنى نفسه في مختلف أشكاله بين حشد من الممكنات الأخرى. فالطب يعرف طبعا الـ «تخمين»، لكن هنا بالضبط أين يبدو الطب بمثابة «فن» بدل أن يبدو كعلم تطبيقي. يرى إيفانس بريتشارد أن «السحر يفسر الظروف خاصة لحدث من الأحداث ومتغيراته وليس ظروفه العامة والكونية»(إيفانس بريتشارد، المرجع السابق، 69). إن ما يشغل المرء غير العالم، الذي نحن إياه جميعا، داخل حياة يومية إشكالية ليس هو قدر السلسلات السببية الكثيرة المفردة، وإنما تقاطعها المأساوي في لحظة معطاة.

أما مثالنا الثاني فنستعيره من مؤلف كتاب لعبة النردشير Liber de Ludo Aleae الذي ألفه جيروم كاردان سنة 1526. وما يجب التشديد عليه هو أن المؤلف، بعدما نظم – فيما يبدو – جميع عناصر حل المشكل المطروح، واصل بحثه في اتجاه مايعتبره بمثابة تفسير حقيقي، لأنه لايشاطرنا لاأدريتنا المتواضعة فيما يتعلق بالتنبؤ بما هو مفرد. والحالة هذه، فهو يرى أن التنبؤ بالنتائج الممكنة لأحد ألعاب القمار ليس سوى مرحلة في اتجاه التنبؤ بهوية الرابح.

يعرض كاردان في كتابه لعبة النردشيـر لأول مرة المبدأين المؤسسين لحساب الإحتمالات، وهما: قانون الأعداد الكبرى (يميل الانتظام النسبي نحو احتمال المصادفة السابقة عندما يرتفع عدد السحوب [ج.سحب])، ثم قانون استقلال السحوب داخل السلسلة (لايؤثر السحب المفرد بأي حال من الأحوال في السحوب اللاحقة). ولربما أمكن لمؤلف حالي في القمار أن يكتفي بتطويرهاتين الفكرتين. لكن إذا كان كاردان طبيبا ورياضيا فقد كان أيضا لاعبا قبل كل شئ، والهدف الذي تابعه في كتابه لم يكن نظريا بل علميا يتمثل في بناء تضعيف[3]. وهو لم يهتم إلا بصفة مؤقتة باحتمال مختلف التوفيقات، أي بما سيسميه ليبنتز فيما بعد بـ «القضاء الطبيعي». فهو يبرهن – في لحظة أولى – على أن احتمال المصادفة المتزامن لستة على عشرة هو واحد على ستة وثلاثين. و- في مرحلة ثانية – يجهد نفسه لاكتشاف كيف يمكن للاعب ما أن يرفع هذا الاحتمال لصالحه. ولا نستغرب من كون عرض كاردان يصبح منذ هذه الحظة مترددا. فالحظ هو القوة التي تتيح رفع الاحتمال بعيدا عن قيمته «الطبيعية»: «يتدخل الحظ إما بتعديل المخطط الذي ينطلق منه الفعل أو بتدخل حدث فجائي () إنه مجال ينتمي إليه السحر، والتمائم، والأشياء الأخرى التي تدخل في هذا النوع من الظواهر» (جيروم كاردان، 1526: 228). ومع ذلك فهو يستخلص بعض الانتظامات: فالذي يرمي النرد بخجل يخسر (نفسه: 219)، لكن النرد يخطئ هدفه لأن الثـروة معاكسة لمن يرميه، ورامي النرد يخسر لأن النرد لا يصيب هدفه، وهو يرمي بخجل لأن عليه أن يخسر (نفسـه: 220). والساحر أو المسحور لايرمي النرد بدقة أو يرميه بخجل إلا لكونه في حالة يحالفه فيها الحظ أو يعاكسه.

طبعا ليس التطور الداخلي لنظرية الاحتمالات هو ما سيجعل هذا المظهر الآخر مظهرا غير شرعي، بـل التطور الشمولي للعلم هو الذي يصير بالتأكيد واقعيا وموضوعانيا بإقصائه «جميع السمات التي تعد تجسيمية وغائية وكيفية» (سطنجر، 1973: 348). ودون أن نزعم أن كاردان قد تنبأ بهذا التطور فهو يتأمل مع ذلك في تفاهة التضعيف عندما يقول بأن الحظ في اللعب ربما له قرابة مع الصدفة التي تدير شكل السحب (كاردان، 1526: 219).

وإذا كنا لانتصور إلا بصعوبة أنه بإمكان اكتشاف فلكي جديد أن يؤدي إلى نهاية علم التنجيم، فذلك لأن هذا الأخيـرلايهدف بأي حال من الأحوال إلى إنشاء علم وضعي حول الأجرام السماوية. فموضوع علم التنجيم هو مصائب الناس، والكواكب لاتتدخل فيها إلا بصفة أداتية، ومفهوم التأثيـر وحده يكفي إلى حد كبيـر لفهم سلطتها وتحليلها. لقد اعتبرت روبرت هامايون أن للشامانية[4] البورياتية سلوك مختلف إزاء إيديولوجيتين متنافستيـن: فهي تخلي الساحة للبوذية التانتكريتية التي تتوفر بدورها على طريقة للعرافة، هي العرافة التنجيمية، لكنها تقاوم الأرتذكسية مقاومة شديدة، علما بأن هذه الأخيرة عبارة عن ديانة مجردة من كل منهج للتنبؤ (تواسل شخصي).

يقوم السحر برهان يتضح بشكل إجمالي رهانا رابحا عندما يؤسس توقعـه على التجاور الزمكاني (Cotiguité spatio-temporelle) الذي يجمع بين عناصر تنحدر من نظام واحد (وعلى التشابه) الذي يجمع بين عناصر لها فعلا خاصية واحدة أو العديد من الخاصيات المشتركة)  (سمبسون، مذكور في ليفي ستروس، 1964: 340). وإذن، فهو يفلح أحيانا، لكنه يفشل في رأينا عندما يعتبر، مثلا، أنه يمكن للمرء أن يحسن بصره بحمل عين حيوان يشتهـر بحدة البصر، لأن رؤية العقاب مهما بلغت حدتها فهي لا تملك هذه الخاصية إلا داخل حقل يتخذ من العقاب في صحة جيدة دعامةً للعين. فخارج هذا الحقل لا تعود عين العقاب ثاقبة. نحن نعرف ذلك، ومن هناك نحكم بالخطأ على من يفكر بكيفية مختلفة. لكن بأي شيء يمكننا مقابلة جوابه؟ لكي تظل رؤية العقاب ثاقبة فهو يحتاج طبعا إلى عينه، لكن هـل أحتاج أنا أيضا إلى عين عقاب كي يصير بصري حادا؟

يموضع التفسير التجريبي والموضوعاتي الذي يقدمه كارل بوبر بشكل جيد موقف الأنثروبولوجي أمام السحر. فهو يعتبر «الإحتمالات نزوعات فيزيائية قابلة للتشبيه بالقوى النيوتنية» (كارل بوبر، 1959 – 1960: 27). فللنرد غير المزور نسبة واحد على ستة للسقوط على كل وجه من وجوهه الستة. ويحترز بوبر طبعا من قول إن احتمال (p) للحدث (a) لا يكون (r) إلا بوجود (b)، حيث تمثل هذه الأخيرة ظروف السحب، أي ما يدعوه هاكينغ بالـ «Chance- setup» (هاكينغ،1965: 13). ويبدو لنا أن السبب في انعدام فعالية الممارسة السحرية يكمن في جهله للضغوط التي تفرضها (p)، وهي هنا باقي عقاب في صحة جيدة.

أخيرا، كيف يمكن تحليل ظاهرة أن عين النسر عندما يتم وضعها داخل تميمة تحسن فعلا رؤية حاملها؟ لا يمكننا أن نأخذ بعين الاعتبار الموقف الأنثروبولوجي المتناقض الذي قد يبقى منغلقا داخل قناعته بأن «ذلك لا يمكن أن ينجح». إن الأنثروبولوجي مهيأ تماما لاستدعاء فاعل أو وكيل الاستعمال السحري كي يكشف لنا عن هدفه – مع أن هذا نادرا ما يكون ضروريا – كما يقول فتجنشتاين الذي ينتقد فريزر (Frazer): «نفهم جيدا الإجراء لأنه يثير فينا شيئا ما» (-فتجنشتاين، 1967: 238). لكن عندما يتعلق الأمر بقول هل نجحت العملية أم لا، فإن الأنثروبولوجي ينصب نفسه حكما فتبدو له استشارة الساحـر أو زبونه شيئا زائدا وغيـر مجد.

عندما نشأ العلم واقعيا وموضوعانيا قام فوضع بين قوسين جميع الآثار المرتبطة بحضور الملاحظ (Observateur) وسط موضوعات مشيدة باعتبارها مواضيع للملاحظة. ويتعلق الأمر هنا بمكبوت، متحرك بالخصوص، لا يكف عن العودة حتى في الفيزياء حيث يعتبر حضوره على الخصوص في غير محله. وإن كان هنالك صدى بين الملاحظ وموضوع الملاحظة، فذلك لأن الذات البشرية تحقق صنيعا خارقا بإنتاجها لأفعال وتأثيرات تأتلف في حقول متنافرة بمجرد تواصل هذه الأفعال والتأثيرات داخل الذات البشرية: فالرمز، كما يوحي اشتقاقه، هو بالتحديد ما يتوصل إلى جعل حقلين متنافرين يتواصلان «داخل الرأس» وهما: عين العقاب وعيني لفائدة هذه الأخيرة.

ومما لاشك فيه أن عددا من الأفعال والتأثيرات التي يتعذر تفسيرها «تنحدر من إوالية مماثلة مبدؤها تافه نسبيا. ولذا، لن نترك مجال التفسير المادي وفيزيولوجية الجهاز العصبي تبدو لنا اليوم في وضع وصف كيمياء الفعالية الرمزية. ومن وجهة النظر هذه تعتبر التجربة التي تم إنجازها مؤخرا تجربة مثالية: ففيها يتم اتخاذ مريض ما موضوعا للتجربة. ويكون هذا المريض يعاني من سعار الأسنان، فيعطى حينئذ «دواء» ويقال له إنه سيخفف عنه الألم، لكن ما يعطى له يكون إما مسكنا حقيقيا، أي المورفين، أو علاجا بديلا. والنتيجة هي أن المريض يصرح في الحالتين معا بأن الألم قد خف عنه. لكن هل قلص العلاج البديل الألم فعلا؟ لمعرفة ذلك يقدم للمريض بعد ذلك مادة غير مسكنة، هي النالوكسون، لها كخاصية إشباع من يتلقون الأندومورفين )وبالتالي المورفين مادام أنها متماثلان(. وفي الحالتين معا يظهر الألم من جديد مما يجعل الاستنتاج التالي يفرض نفسه: في الحالة التي يكون المريض قد ابتلع مادة محايدة، أي علاجا بديلا، معتقدا أنه قد ابتلع مسكنا، في تلك الحالة ينتج جسمه كمية كبيرة من الأندومورفين. إذا كان المورفين يخفف الألم فإنه يحقق ذلك بصفته مسكنا. وإذا كان العلاج البديل يخفف هو الآخر الألم مع أنه ليس بشئ، فإنه يحقق ذلك بصفته رمزا لفعالية الطب الواقعية الحقيقية التي يعد المورفيـن أحد دعائمها الموضوعية. إن المسكن الحقيقي هو كذلك رمز، لكنه يتوفر أيضا على فعالية واقعية تدعم الثقة التي تمنح للعلاج البديل. وفعالية المسكن الحقيقية تعفيه من استدعاء الفعالية التي يتصف بها باعتباره رمزا للمسكن، أي باعتباره رمزا لنفسه.

[VI – الفعاليــة الرمزيــة]

تعتبر الكلمة ناقل الفعالية الرمزية المفضل. فهي أداة إعجازية قادرة على خلق تواصل بين حقول إن لم ينعدم لقاؤها فهو يظل غير محتمل تماما. ولا يستطيع المرء، مالم يكن ساذجا، أن يشك في فعالية هذه العلاجات التي ترتكز على سلطة الرمز المنقولة بواسطة الكلمة، والتي نجد التحليل النفسي في مقدمتها. حقا، يجب أولا «الاعتقاد في الكلمة»، لكن بأي وجه من الوجوه يمكن لضرورة توفر قناعة مسبقة أن تشكك في فعالية لا تكف عن التأكد؟ إن الفرد الذي أصبحت أحواله الداخلية لا تتيح له أن ينتج سوى استباقات غير ملائمة وذات عواقب كارثية )حوادث، أمراض، انهيارات(، ذلك الفرد عندما يطرح عليه سؤال ما إذا كان باستطاعته: «أن يقاوم»، فإنه ينتج – إما هو نفسه أو بواسطة شخص آخر – خطابا حول ماضيه وحاضره ومستقبله. ما يقوم به هو «ترديد يرهق المسامع». وهذا الترديد يكون إما صدفويا – أظهر فويستر تأثيراته المبنينة (فويستـر، 1960: 43 – 45) – أو موجها من طرف «فرد يفترض أنه يعرف»، أي يجيد الحكم على الخلل ويعرف طرق علاجه. وقد أظهرت الممارسة أن هذا الترديد لا يخلو من تأثير في الذات التي لم تعد منسجمة مع عالمها. وأنواع الكلمات التي تعيد البنينة مختلف ومتناقض مادامت فعاليتها تقتضي وساطة إطار رمزي يجب أن يكون ما ينقله من يقين كافيا داخل نظام ثقافي محدد: يجب أن يقو المرء الاعتقاد فيه. وقد اعتبر دوركهايم الغياب الظرفي لمثل هذا الإطار بمثابة فوضوية ولانظام. إن الممارسات الخصوصية للسحر الأبيض أو العرافة تعدل الأحوال الداخلية لفرد حلت به مصيبة بسبب استباقه لحياته بعكس المقصود، كما ترخص بقيام اتفاق جديد بين طرفي حياته. وممارسات السحر الأسود – التي يسلم بها عموما الفرد الذي يعتبر نفسه ضحية – تتيح إجراء تخفيف محلي للضغط الاجتماعي الذي يضع نكد الطالع [المسحور] في حالة مؤسفة. وقد شددت جان فاري-سعادة على هذه المسألة: فـ «من المستبعد أن يوجد ساحر ما يمارس يتعاطى فعلا للرقى المؤذية، لكننا نشك إطلاقا في إمكانية اشتغال النسق السحري في غياب هذا الاعتقاد» (جان فافري- سعادة، 1977: 39).

يعتبر علم ماوراء النفس النمط السحري المألوف جدا لدينا نظرا للمكانة التي تخصصها له «وسائل الإعلام». وهو يحظى أيضا باهتمام علميين يوصفون بالجدية حيث يخصصون له ساعات طوالا من التأمل. ولربما تشكل الاستحالة التي يجد العلم نفسه فيها إزاء تحليل الظواهر ماوراء النفسية عيبا يهدد مجموع البناء بانهيار مداهم. وفي الحقيقة، إذا كان علم ماوراء النفس يشكل خطرا على العلم فذلك بالتأكيد ليس بمحتوياته وإنما بمفترضاته الإبستيمولوجية. نقصد أن علم ماوراء النفس هو حادث مصطنع خلقه العلم نفسه انطلاقا من أسقاط[5] من الظواهر التي تتضح فيها الفعالية الرمزية. ولذلك فالعلم لن يستطيع تحليل علم ماوراء النفس إلا «دفعة واحدة»، أي لن يستطيع دراسته عن طريق تفسيرات متعاقبة وإنما بإجراء تغيير شمولي لموقفه تجاه التواصل الفعال الذي يحققه الفاعل الإنساني في داخله بين حقول الواقع التي تظل في غياب هـذا التواصل حقولا منفصلة. بتعبيـر آخر، لن يستطيع العلم ذلك ما لم يغير موقفه شموليا إزاء الفعالية الرمزية. وقد عبر دومون بصياغات مختلفة عن فكرة قريبة جدا من هذه. فهو يسمي أسطـورة ما نسميه رمـزا:

«يقول الخطاب العقلاني شيئا واحدا في الوقت نفسه، أما الأسطورة أو القصيدة الشعرية فتعبر عن كل شئ في جملة واحدة. الخطاب الأول مستو، والثاني سميك (را. الـ «Thic description» لكليفورد غيرتز). الأسطـورة فكر متماسك من نوع آخر مختلف عن التماسك الخطابي أو الـ «عقلية»[6]. ومع ذلك فنحن لا نستطيع أن نتركه يقضي في «اللاعقلاني» الذي يشبه باللاتجانس واللاتماسك» (دومون، 1978: 98 – 99).

ومنذئذ، سيتوقف كل شئ على الخطاب المرجعي الذي يفيد منه أنثروبولوجي ما. فبعض أنصار الأنثروبولوجيا «الفيزيائية» لا يتركون سوى حيزا ضئيلا لأشكال رجع الصدى هذه التي تقوم بين الملاحظ (Observateur) والملاحظ (Observé) ولذلك يشعرون بأنهم مقيدين بمقتضيات الخطاب العلمي المتطرفة فيما يمارس آخرون – على العكس – أنثروبولوجيا أقرب إلى تاريخ غائي[7] فلا يتورعون عن إجراء مقاربة تتخذ كمقياس لها النية التي يعبر عنها الممثل، ولذلك فهم لا يستطيعون التملص كلية من هذه الفعالية الخصوصية المتمثلة في فعالية العلم. وسيتنوع اتساع المجال المنسوب للسحر حسب تصرفات الملاحظ (Observateur): فهو شديد الشساعة في رأي أنصار الأنثروبولوجيا «الفيزيائية»، ومتلاش في رأي أنصار العلة الغائيــة.

ولنر انطلاقا من بعض الأمثلة كيف يجري الأنثروبولوجيون فرز مكون السحر أو الأسطورة عندما يتعلق الأمر بتمثل من التمثلاث. لقد أورد ج. أ. وف. بريغت في نص نشراه سنة 1969 ما يلي:

«- هل الضفدع سمكة؟

– لا، ليس الضفدع سمكة

– وإذن فما عسى الضفـدع أن يكون؟

– إنه امـرأة.

توجد هنا طبعا إحالة على أسطورة، وهذا يذكرنا بجملة كرويبر (Kroeber): “لما حاولت الحصول على معطيات إثنوغرافية حول سكان اليوروك، اضطررت مرارا ومرارا إلى الاستماع إلى الأساطيـر التي كنت أعـرفها مسبقا قبل أن نتوصل أنا وإياهم إلى الحقائق الحالية، كما كنت في أغلب الأحيان لا أفلح في دفع من يخبرونني إلى الحديث في هذا الموضوع أو ذاك إلا بتوبيخهم قليلا”» (ج. أ. وو. بريغت، 1969: 70)

يبدو بحسب رأي ج. أ. وف. بريغت وكرويبر – الذي يحيلان عليه – أن مبدأ الفرز بين الأسطورة والمعرفة الموضوعية للعالم «مبدأ مسلم به. فالتمركز العرقي نادرا ما يكون ساذجا اليوم. وفي نص مخصص لتحليل المعارف البيئية عند بوشيمان الكونغ[8]، يجري بلورتن جونس وكونز فرزا أكثر حذقا (وسنمنح لأنفسنا حرية التشديد على صياغاتهما الماكـرة):

«بإمكاننا ذكر عدد كبير من المعتقدات غير العقلانية حول الحيوانات، غير أنها لا تلعب، فيما يبدو، سوى دورا صغيرا جدا في حياة الكونغ اليومية وفي تفاعلاتهم مع الحيوانات. والمعتقد الوحيد الذي يعامله الناس بما فيه الكفاية من الجد هو الملك أو المس (Possession) من قبل الطيور. بعبارات أخرى، إن مثل هذه المعتقدات لا تتداخل مع دراسة السلوك الحيواني. ويبدو أنها لا توجد سوى في حيز من الفكر مفصول جدا عن المعرفة الإثنوبيئية» (جونس وكوني، 1976: 34).

وإذن فهنالك حثالة، لكن المؤلفين يحققان آيات من الحذق للتقليل من أهميتها وانعكاسها على المعارف الحقيقيـة.

غير أن هناك أنثروبولوجيون آخرون على وعي بالخطر الذي يشكله الفرز المختزل. وها هو أحدهم، مثلا، يشعر بالفخ ويجتنب الوقوع فيه:

«لنحترز، إذن، من التمييز بين المعتقدات الدينية، من الاحتفاظ ببعض منها لكونه يبدو لنا صحيحا وسليما ونبذ البعض الآخر باعتباره غير جدير بأن يسمى معتقدا دينيا لأنه يشوش علينا.» (دوركهايم، 1912: 117).

لكن سيعترض علينا بأن دوركهايم لم يكن أنثروبولوجيـا…

لقد تعلق الأمر في الأمثلة السابقة بأنماط من المعرفة حول العالم لم يتم إبراز مستتبعاتها العملية. عندما يتعلق الأمر بعمليات مادية وبتمثلاتها في ما يسمى عادة بالسحر، فإن الفرز يميز بين مكون مشروع، هو المعـرفة التجريبية )منحدر خطابي لـ «مهارة» ما( ومكون غير مشروع، هو السحر. والمعرفة التجريبية لا تقتضي إلا قليلا من النظرية. فهي معرفة استقرائية وتقوم بلاشك على هذه الإواليات السيكولوجية الأولية التي تبيح توسيع زوايا الحياة اليومية بتجريد الأشكال المقيدة للهيآت المألوفة في غايات استباقية. وكثيرا ما تعبر هذه المعرفة التجريبية عن نفسها بصياغات مقتضبة. ونرى أن الأمر يتعلق فعلا باستقراء، وسنرى تأكيده في أمثلة كالمثـال التالي:

«قبل التوصل إلى البرهنة رياضيا على أن التتمة في لعبة البوكر أكثر شيوعا من الثلاثية[9]، ظلت هذه الأخيرة لزمن طويل تحظى بقيمة عليا في ممارسة اللعب الشائعة. وبكيفية عامة، فقد كان ترتيب مختلف الضربات وقيمتها معروفين جدا. ويذكر كندال (Kendall) الـ “كراب” (Craps) الذي توضح قواعده أن حظوظ ربح اللاعب الأول قد تكون واحدا ونصف في ظروف لعب عادية. وفعلا، فالقيمة قريبة جدا من واحد ونصف مادامت تتحدد في 244 على 493. ولذا، يوجد تقليد هام من المعرفة التجريبية الصحيحة» (هايكينغ، 1975: 53).

ولاشك بتاتا في أن هذه المعرفة التجريبية تشكل الأساس غير المرئي لكل فرضية ممكنة. وهكذا نعثر في مستوى ماقبل نظري على منطق علم لا نرى كيف يمكنه أن يكون دفعة واحدة علما فرضيا استنباطيا [10] ((Hypothético-déductif. من جهة أخرى، إنه لذو دلالة أن تيارا أنثروبولوجيا بكامله يخلط – على أثر فريـزر – بلاقيد ولاشرط بين المعرفة التجريبية والعلم. وبذا، يتم الحفاظ على صورة العلم التي يصفها جرفي وأغاسي باعتبارها «تراكما ضخما من الملاحظات التجريبية التي يجب أن “تصاغ” نظرياتها كعصيـر، إذا صـح القول» (جارفي وأغاسي، 1970: 178 – 179).

ومهما يكن أمر المعرفة التجريبية باعتبارها علما أو ما قبل علم سائر في الطريق السليم فإن تفسير أقل مقال يظهر أن المعرفة التجريبية والسحر لا يشتغلان كمقولتين متمايزتين وإنما كقطبي تفسيـر تعاقبيين لما يعد بمثابة استباق سعيد لما سيكون فيما بعد علما تطبيقيا ولأضرب تيه التحريك المستحيل للعلاقات السببية غير الموجودة. ولذا لا يجب على استعمال من الاستعمالات أن يعرض مظهرا مزدوجا: مظهر معرفة أمبريقية، ومظهر سحر. فالتعميم عظيم الكبر للنتائج الملاحظة اعتمادا على نموذج مصغر يشكل مثالا جيدا عن المعرفة التجريبية التي يتناولها العلم التطبيقي. وملاحظة أن تغيير المقياس أو السلم لا يعدل المشكل إلا بطريقة تعرض بدقة، تلك الملاحظة تتيح اقتصاد عدد لامتناه من القياسات التجريبية. فاستعمال المعرفة التجريبية يتم هنا بطريقة مراقبة دون تدخل – وبأي طريقة من الطرق – عناصر قابلة لأن توصف بكونها عناصر «سحرية». وعلى العكس، فالرقص من أجل الاستسقاء هو سحر بدون معرفة أمبريقية (مع ذلك فالمعرفة التجريبية، كما لاحظ فتجنشتاين، تتدخل في كون الرقص لايتم إلا عندما يكون المطر أرصاديا ممكنا (فتجنشتاين، 1967: 244).

منذ ذاك، يطرح السؤال: ما محرك هذا التمييز بين العلم والمعرفة التجريبية؟ إنه التطبيق المنهجي لمبدأ «الأريحية الإبستيمولوجية لإحدى النتائج الضرورية لمسلمة تناظرية أحوال للعم متعاقبة. فالنظرية الجديدة تعمم وتبسط النظرية السابقة لها جاعلة منها حالة خاصة تشتغـل بدرجة من التقريب كافية في ميدان محدد (كوهن، 1970: 127). ويصف فييرابند إوالية تجاوز نظرية من النظريات (T’) لنظرية أخرى (T) كالتالي: «تحل (T’) محل (T). و(T’) تفسر لماذا تفشل (T) حيث تفشل (في F)، نسبيا على الأقل، كما تنتج تنبؤات إضافية (A)» (فييرابند، 1970: 220).

تجيز الأريحية الإبستيمولوجية لـ (T’) أن تبرر (S) الذي فسرته (T). وما يقاوم ويسقط هو (F)، وهنا أين نجد السحـر. إلا أن المادة التي تسقط تكون فعلا غيـر متجانسـة بالضرورة. فكوهن يرى أنه «يمكن التخلي عن بعض المشاكل القديمة لفائدة علم آخر أو اعتبارها بكل بساطة “غير علمية”». ها نحن داخل السحر. ويضيف فييرابند:

«… مع أن النظريات الجديدة تكون في أغلب الأحيان أفضل من سابقاتها وأكثر تفصيلا منها فإنها ليست دائما غنية بما فيه الكفاية لمعالجة جميع المشاكل التي كانت النظرية السابقة قد قدمت لها جوابا محددا ودقيقا. إن تطور المعرفة أو – أكثر تخصيصا – إن تعويض نظرية بنظرية أخرى يقتضي خسارات كما يقتضي أرباحا». (المرجع السابق: 219).

والخسارة – مهما تضمنته من أشياء – هي السحـر، هي ما يقاوم التعويض الأريحي الذي تقوم به النظرية الجديدة.

إن ما قيل هنا بشأن تعويض نظرية ما بنظرية أخرى يصدق أيضا على الحكم الذي تصدره نظرية من النظريات حول ما يشتغل داخل استعمال لانظرية له أو يدعمه استقراء «مرتجل» لاغير. ومن ثمة، فالإيثار الإبستيمولوجي – بتعرفه على أقواله وأفعاله في ما تم قوله/فعله من قبل أو ما يفعل في مكان آخر – هو الذي يجرد المعرفة التجريبية من آفة السحر. وبعد هذا التجريد يقوم بـ «انتقاد» جزء من الاستعمال وتشييـد القسم الآخر باعتباره نفاية، وذلك بتفجيره لتماسك عملية كانت مرتكزة على مبادئ أخرى (والتماسك السابق يصير غير مرئي).

تأتي محاولة ليفي برول الذي أجهد نفسه، بفضل مفهوم «العقلية البدائية»، في إعادة بناء مثل ذلك التماسك (الذي كان يراه بمثابة منطق مختلف) بمثابة حل جذري للتفكيك الأريحي. فقد كانت محاولته يائسة لسبب بذيهي هو أنه لا يمكن إجراء «ترجمة للثقافات» انطلاقا من مسلمة استحالة القياس. لقد وجد ليفي ستراوس، في محاولته الموازية اللاحقة، ذلك التماسك باعتباره «فكرا متوحشا» (ليفي ستراوس، 1962: 24): فهو يتجنب البلبلة إلى حد ما بوضعه «الفكر المتوحش» في مستوى آخر من إدراك الواقع غير مستوى العلم، في «مستوى استراتيجي» من مقاربة الثقافة مطابق تقريبا لمستوى الإدراك والتخيل». وقد وجد غودولييه في: «الفكر المتوحش» لدى ليفي ستراوس مفهوما قريبا مما أسماه ماركس «فيتيشية» (أو في بعض الأحيان، «ديانة الحياة اليومية» أو حتى «سحـرا»)، أي وجد فيه تلك القدرة التي يملكها الواقع في عرض نفسه باعتباره نقيضا للوعي «المرتجـل» لدى الأفـراد (غودولييـه، 1973: 304 – 311).

لقد لفت جلنر انتباهنا إلى إوالية دقيقة: فمع قيام أنثروبولوجيا (وظيفية) ميدانية وماراكمته من أخبار وصفية صار بالإمكان إنقاذ – بكيفية مؤثرة – كل طرح يبدو صادرا عن منطق مختلف – كأن يرى النوير[11]، الذين درسهم إيفانس بريتشارد، الشخصين التوأمين طائرين – شريطة أن يعاد وضع ذلك الطرح في سياق يتيح له استرجاع العقلانية التي تبدو لنا لأول وهلة غائبة تماما فيه (جلنر، 1973: 33). ويلاحظ أن عمليـة إعادة وضع خبر ما في السياق كتلك التي تقوم بها دائما النسبية الثقافية هي عملية مريحة مادام أن جميع المجتمعات التي ندرسها قد تخلفت (ont survécu) ولم تستطع مذ ذاك أن تحافظ إزاء محيطها على موقف «لاعقلاني» جملة. غير أن لمثل هذه المقاربة الموثرة عن طيب خاطر سلبية كبرى: فهي تمحو جميع اللاتماسكات التي يمكن أن يكون لها تحديدا دور حاسم في التوترات التي تقود إلى التغيير الاجتماعي (المرجع السابق: 44).

عندما تعتبر المقاربة «المفرطة في الأريحية» الإحالة على الخطاب العلمي – بغض النظـر عن الطبيعـة المشكلة لهذا الخطاب – خاصية يمكن إهمالها في تفكك مشكلة السحر، وعندما تقوم بهذا التفكيك، فإنها تحـول دون تحليل الفعالية الأخرى المتمثلة بالتأكيد في فعالية العلم التطبيقي. ولكي نعود بهذا الصدد إلى الطرح الذي يعتبر التوأميـن طائرين:

«فمنهج إيفانس بريتشارد (…) يقوم على أخذ جمل أو نظريات أولية تقدم لأول وهلة شاهدا ممتازا لنظرية [وجود] عقلية “ما قبل منطقية” عند البدائيين، ثم القيام بعد ذلك بإظهار – على ضوء نظرية في التفسير السياقي – أن تلك القضايا أو النظريات لا تشكل على الإطلاق شهادة من ذلك النوع (…) وآنذاك يمكن التساؤل: ما الذي يمكن أن يعد بمثابة فكر ماقبل منطقي؟ وحده، بدون شك، ذلك التصرف الموغل في العته والجنون الصادر عن شخص يعاني ربما من هلوسات دائمة ويعامل من هو كائن بشري لا غبار عليه كما لو كان يمتلك جميع خاصيات الطائـر البدنيـة» (المرجع السابق: 31 – 33).

[خلاصــة]

هكذا، يبدو أن السحـر حادث مصطنع، مجاله قابل للمد والبسط بتقدم العلم. ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن السحر «حادث مصطنع للمجال الاعتباطي»: فللمارسات المبعدة بهذا الشكل خاصيات دقيقة تحددها أنماط إقصائها من جهة، والخصائص الجوهرية «للفكر المتوحش» من جهة أخرى. والفكر المتوحش لا يفكر في أي شئ. فخصائصه ترتبـط – كما رأينا – بمستواه في فهم الطبيعة، بمستوى الإدراك والتخيل. وسوف يكون من الضروري التمكن من تحليل، وفي آن واحد، الفعالية النفعيـة لبعض الممارسات والفعالية الرمزية لممارسات أخرى، وهما تبدوان في بعض الأحيان متماثلتين. وهنا بالضبط أين مارس الأنثروبولوجيون حكمتهم بقوة جديـرة بالتنويه، مع أنهم طالما خذلوا عندما كان الأمر يتعلـق بتحديد مجال السحر. وقد استطاع أحدنا (جوريون: 1977) أن يبين أن غياب تلك الحكمة، حينما يتعلق الأمر بالفعاليـة الرمزيـة، ربما لا يخلو من صلة بالوضع الغامض للخطاب الأنثروبولوجي نفسه وبالأسئلة المرتبطة به التي تعبر الأنثروبولوجي عندما يكتب/تكتب الأنثروبولوجيـا.


الهوامش والمـراجـع

– BLUTRON Jones, N. & M. J. KONNER

1976 «! Kung Knowledge of Animal Behavior», in R. B. Lee & I. De Vore eds., Kalahari Hunters-Gatherers. Cambridge, Mass., Harvard University Press: 325-348.

– BRIGHT, J. O. & W. BRIGHT

1969 «Semantic Structures in Northwestern California and the Sapir-Whorf Hypothesis», in S.A. Tyler, ed., Cognitive Anthripology. New York, Holt, Rinehart & Winston: 66-78.

– CARDAN, J.

1953, Liber de Ludo Aleae [1526].Reproduit in O. Ore Cardano, The Gambling Scholar. New York, Dover Publications.

– DUMONT, L.

1978, «La communauté anthropologique et l’idéologie», L’Homme XVIII (3-4), n° spéc. De l’idéologie: 83-110.

– DURKHEIM, E.

1912, Les formes élémentaires de la vie religieuse: le système totémique en Australie. Paris, Alcan.

– EVANS-PRITCHARD, E.E.

1937, Witchraft, Oracles and Magic among the Azande. London, Oxford University Press. (Trad. franç.: Sorcellerie, oracles et magie chez les Azandé. Avant propos du professeur C. G. Seligman, FRES. Traduit de l’anglais par Louis Evrad. Paris, Gallimard, 1951, 642 p. «Bibliothèque des sciences humaines».)

1951, Social Anthropology. London, Routledge & Kegan Paul.

– FAVRET-SAADA, J.

1977, Les mots, la mort, les sorts. Paris, Gallimard («Bibliothèque des sciences humaines»).

– FEYERABEND, P.

1970, «Consolations for the Specialist», in I. LAKATOS & A. MUSGRAVE, eds., Criticism and the Growth of Knowledge. Cambridge. Cambridge University Press.

– FOERSTER, N. Von

1960, «On Self-Organizing Systems and their Environment», in M. C. YOVITS & S. CAMERON, eds., Self – Organizing Systems. Oxford, Pergamon Press..

– GELLNER, E.

1973, « Concepts and Society», in E. G., Cause and Meaning in the Social Sciences. London, Routledge & Kegan Paul (IST ed. 1962.).

– GODELLIER, M.

1973, Horisons, trajets marxistes en anthropologie, Paris, Maspero (Petite collection Maspero).

– HACKING, I.

1965, The Logic of Statistical Inference. Cambridge, Cambridge University Press.

1975, The emergence of Probability. Cambridge, Camridge University Press.

– HESS, M.

1974, The Structure of Scientific Inference, London, Macmillan.

– HUBERT, H. & M. MAUSS

1902 – 1903, «Esquisse d’une théorie générale de la magie», L’Année sociologique 7: 3-141.

– JARVIE, I.C. & J. AGASSI

1970, «The Problem of the Rationality of Magic», in B. R. WILSON, ed., Rationality. Oxford, Brasil Blackwell: 172-193. (IST ed. 1967.)

– JORION, P.

1977, «Wat Are Anthropologists Talking about? Epistemological Hints about the Anthropologost’s ‘Job’», Cambridge Anthropology III (3): 49-54.

– JUNG, C.

1972, Synchronicity, An Acausal Connecting Principle. London, Routledge & Kegan Paul.

– KUHN, T.

1970, La structure des révolutions scientifiques, Paris, Flammarion.

– LEVI-STRAUSS, C.

1962, La pensée sauvage, Paris, Plon.

1964, «Sur quelques problèmes posés par l’étude des classifications primitives», in Mélanges Alexandre Koyré, I: L’Aventure de l’esprit, Paris, Hermann.

– MARETT, R. R.

1907, «Is Tadoo a Negative Magic?», in Anthropological Essays presented to E. B. Tylor. Oxford, Oxford university Press: 219-234.

– POPPER, K.

1959-, «The Propensity Interpretation of Probability», 1960 British Journal for the Phiilosophy Science.

– STREGERS, I.

1973, Physique et métaphysique, in Connaisance scientifique et philosophie. Colloque organisé les 16 et 17 mai 1973, Bruxelles, Académie Royale de Belgique.

– WITTGENSTEIN, L.

1967, «Bemerkungen ber The Golden Bough», Synthese 17: 233-253.

[1] – نشكر الأساتذة ج. أ. بارنس (J. A. Barnes) وأ. جلنير (E. Gellner) والسير إدموند ليتش (Sir Edmond Leach) على تفضلهما بإبداء ملاحظات حول النص الحالي قبل نشره.

[2] – الأزاندي (Les Azandé): أحد شعوب إفريقيا يتكلم اللغة السودانية ويقطن في منطقة اقتسام المياه بين النيل والكونغو داخل تراب متقاسم بين جمهوريتي الزايير وإفريقيا الوسطى ثم السودان. وقد أقام إيفانس بريتشارد بين الأهالي الأزانديين مدة عشرين شهرا متقطعة فيما بين 1926 و1930، فألف انطلاقا من المعطيات التي جمعها خلال هذه الحقبة سفره الضخم السحر والكهانة والتطبيب عند الأزانديين (بالإنجليزية). وقد ترجم إلى الفرنسية في 624 صفحة تحت عنوان: Sorcellerie, oracles et magie chez les Azandés, Paris, Gallimard, 1972. (عن: Michel PANOFF et Michel PERRIN, Dictionnaire de l’ethnologie, Paris, Payot, P.B.P, 1972، (المترجم).

[3] – التضعيف: نظام في القمار يضاعف فيه المبلغ المقامر به عند كل خسارة. (م).

[4] – الشامانية: نشاط سحري ديني يقوم به أشخاص من رجال الديـن أو المطببين تكمن قدراتهم الفوطبيعية في تمكنهم من تقنيتي الشطح والملك أو المس (Possession). ووسيلة تمكنهم منهما هو سفـر إلى السماء خلاله يحاربون الآلهة أو يفتنونها. (م. عـن المـرجع السابـق).

[5] – أسقاط: سلع متنوعة رخيصة الثمـن. (م).

[6] – العقلية (Rationalité): صفة ماهو عقلي. (م).

[7] – الغائيـة (Téléologie): نظرية تقول بأن ما من كل شئ في الطبيعة إلا وهو موجه إلى غاية معينة. (م).

[8] – البوشيمان (Bushiman): كلمة هولاندية تعني إنسان الدغل. وقد أطلقها المستكشفون الهولانيون الأوائل على أحد شعوب جنوب شرق إفريقيا يعيش أغلب سكانه في صحراء كالاهاري، وهي هضبة قاحلة تقع بين بوستوانا وناميبيا. ويتميز البوشيمان جسديا بقصر القامة. وهم يعيشون على الصيد وقطف الثمار لاغير. وقد تعرضوا لعمليات تقتيل جماعية سنة 1890. عن معجم الإثنولوجيـا، مرجع سابق الذكر. (م).

[9] – الثلاثية: لعبة ورق يكون في يد كل لاعب بها ثلاث أوراق. (م).

[10] – وهنا نلتقي مع هيـس، 1974: 89 – 102.

[11] – النويـر (Les Nuer): مجتمع إفريقي يزاول أهله الرعي. وقد أحرزوا بفضل كتابات إيفانس بريتشارد عنهم على شهرة واسعة في أوساط الأنثروبولوجيين. ويتميز النوير بقدرتهم الفائقة على التكيف مع محيطهم، وبنظامهم الخطي الأبوي المتطور جدا، وباشتغال مجموعات القرابة عندهم على شكل مجموعات سياسية في إطار نظام انقسامي. (عن معجم الإثنولوجيا سابق الذكر). (م)

 

المصدر: موقع الأستاد محمد اسليم

http://goo.gl/7fb0dH

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.