“اختلاق الآخر”.. نهاية شعرية المعرفة

اختلاق الآخر

 

“اختلاق الآخر”.. نهاية شعرية المعرفة

شوقي بن حسن

مع تشعّب مواضيعها وتسارع تطوّر تقنياتها ومنهجياتها، باتت الأنثروبولوجيا مجالاً أساسياً من مجالات المعرفة الحديثة، مقدّمة انتقالات رشيقة بين الأماكن والقضايا والعصور.

ضمن هذا التطوّر، تظهر ملامح نقدٍ لأدوات الأنثروبولوجيا قد يصل إلى محاولات حفر جذريّ في هذا المجال وجهازه العلمي، كما في كتاب “اختلاق الآخر.. في طبيعة الخطاب الأنثروبولوجي” للباحث التونسي المقيم في سويسرا منذر كيلاني. عمل نقله إلى العربية أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية نور الدين العلوي وصدر عن “المركز الوطني للترجمة” في تونس (2015).

ينقسم الكتاب إلى جزأين رئيسيّين تربط بينهما إحالات متعدّدة؛ الأول نظريٌّ يتناول الأنماط التي تحكم الأنثروبولوجيا كممارسة ثقافية، فيما يقدمّ الثاني مجموعة بحوث ميدانية تستفيد من العمل النظري الذي سبقها.

موقع كيلاني، كباحث عربي مقيم في الغرب، يُكثّف طرحه ويزيده توتّراً، إذ إن إشكالية الأنثروبولوجيا تبدو معه مضاعفة؛ فنحن إزاء مأزق الأنثروبولوجيا ككل، في خطابها وأدواتها وأشكال تلقّيها (مأزق مركزي)، ولكننا أيضاً حيال مأزق “الأطراف/ المواضيع” مع هذا المجال المعرفي، باعتباره يمثّل أداة هيمنة. ففي الزمن الذي يتصاعد فيه التوجّه إلى تحرير الأنثروبولوجيا من نزعاتها الاستعمارية، تتلاشى الميادين التقليدية (الواقعة في المستعمرات) لتحرّك الأنثروبولوجيين، كما يفقد القرّاء الثقة في الخطاب العلمي عموماً.

في أوّل فصول الكتاب، “المسافة والمعرفة”، يدرس كيلاني ما فعله الأنثروبولوجي الغربي بالمختلف الذي جرى تحويله إلى “غرائبي”، فالعملية لم تكن سوى “إعادة تشكيل للآخر على صورة الذات” وصولاً إلى تحويل الآخر إلى “نحن” معاداً إلى الزمن القديم.

هنا، يعود الكيلاني إلى نصوص ذاتية لأنثروبولوجيين أوروبيين في ما يشبه تطبيق الحفريات الأنثروبولوجية على المدوّنة الأنثروبولوجية ذاتها، حيث يستخرج من كتابات ميشال لايريس وفيكتور سيغالان وكليفورد غيرتز وماري جان بوريل قرائن عن هذ التوجّه، الذي يُظهر كيف تطوّر من عدم الوعي به إلى الاعتراف بتحوّله عائقاً أمام تطوّر الأنثروبولوجيا.

هذه الأزمة يضعها كيلاني في سياقاتها الفكرية، فهي أيضاً أزمة ما بعد الحداثة، وأزمة “تقادم جهاز السرد” مع “انتهاء شعرية المعرفة”، ما يدفع أنثروبولوجيّي اليوم إلى المسارعة في بناء تقنيات جديدة كالمحاورة والإسناد واستدعاء المحلي.

 

هكذا يصل بنا كيلاني الى وصف واقع الأنثروبولوجيا اليوم؛ فـ “الشكل الجديد من الموضوعية التي تطالب بها الأنثروبولوجيا هو أن تقدّم للقارئ جملة الشروط والملابسات المحيطة بالبحث لتتمكّن بذلك من أن تعيد للحقيقة جزأها المبنيّ”، ولكن عند هذا المستوى علينا أن نتفطّن إلى أن “خاصية المعرفة الأنثروبولوجية هي إخراج الموضوع الملاحظ من سياقه لجعله ملكاً لتاريخ الفاعل الذي يلاحظه”، وهو ما يعبّر عنه بعدم التماثل بين قطبين: قطب المعرفة المحلية وقطب المعرفة الكونية.

غير أننا هنا ينبغي أن نتلمّس مفارقة أخرى، وهي أن المشروع الأنثروبولوجي لم يصبح ممكناً إلا انطلاقاً من اللحظة التي وجد فيها التاريخ الغربي نفسه قائماً ضدّ كل التواريخ الأخرى.

في فصل بعنوان “الميدان والثقافة والنص”، يقدّم كيلاني وصفاً لعمل الأنثروبولوجي، بداية من اختياره ميدان عمل لنفسه طبقاً لأسباب علمية وشخصية، مروراً بإقامته في هذا الميدان، ووصولاً إلى عودته إلى مقرّه الأول و”بين يديه أشياء مختلفة جاهزة للتفكير فيها ومعالجتها بواسطة مفاهيم ومصطلحات تقنية ونماذج نظرية”. يشير كيلاني إلى أنه بين زمن الميدان وزمن الكتابة يخضع الأنثروبولوجي إلى محاولة إرضاء قارئ مفترض يكون غالباً زميل عمل.
كان كولومبوس والذين معه يحملون فكرة مسبّقة عما سيكتشفونه. يتساءل كيلاني “هل يمكن إدراك الجديد وهل يمكن روايته؟”، مبيّناً في الأثناء كيف أن الأشياء الجديدة التي شوهدت في العالم الجديد قيست وقورنت بأشياء قديمة، أي أنهم في النهاية قاموا باختلاق أميركا برمتها قياساً على معرفتهم الأوروبية، وبعدها “مارسوا سلطة المسمّي على الأرض التي يسمّيها، استباقاً لإخضاع سكانها”.هذه الملاحظات النظرية، سنجد لها توظيفات متعدّدة حين يتصدّى كيلاني لعملية تركيبية تأريخية للأنثروبولوجيا في فصل بعنوان “اكتشاف الآخر واختلاقه”، حيث يقدّم سردية تبدأ من نقطة اكتشاف كولمبوس للقارة الأميركية في لحظة يسميها الباحث التونسي بـ “صدام التاريخ الأوروبي مع بقية تواريخ العالم”.

سيغلق كيلاني دائرة سرده بوصول أوروبي آخر هو الفرنسي كلود ليفي ستروس إلى القارة الأميركية، في زمن تأسيس الأنثروبولوجيا المعاصرة على أسس علمية. يلاحظ كيلاني هيمنة الذكريات والقراءات وتقارير الرحلات على مخيال الأنثروبولوجي الفرنسي أيضاً، وبالتالي فقد كان بدوره “أعمى” أمام ما انكشف أمامه.

كيف تلوّن هذا العمى الأنثروبولوجي؟ ذلك ما يشتغل عليه كيلاني في الفصل التالي، حيث يبرز احتكاكات الأنثروبولوجيا بالاستعمار كظاهرة تاريخية مثلت لها إطار توسّع.

جميع هذه الأفكار سنجد لها فضاءات تطبيق في الجزء الثاني من العمل، حيث ننتقل من “بورابورا” (غينيا الجديدة في قارة أقيانوسيا) إلى “طقوس السفينة الميلانيزية” (إندونيسيا) إلى “صور الريف في منطقة الألب السويسرية” أو “فرنسا والحجاب الإسلامي: الكونية والمقاربة والتراتب” مروراً بدراسة عن “الماء والعروش في واحة قصر قفصة” (تونس).

ترى هل هذا التنوّع اللافت لمباحث كهذه ممكنٌ لو لم يكن كيلاني ينطلق من نقطة في المركز؟ السؤال ينسحب أيضاً على إمكانية تقديم نقد جذري للأنثروبولوجيا كالذي قدّمه.

قد يكون مَخرجاً للأنثروبولوجيا في مآزقها أن يستوعبها “الأهلي” ويمسك بخيوطها، متحدثاً عن نفسه بمفردات معجمها، ولم لا يعكس مساراتها وينظر من خلالها إلى “ميدان” ما في المركز؟

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.