أيديولوجيا الطب الحديث: الطب من حيث هو ممارسة تأويلية وأداة للهيمنة

نادر كاظم*

هل بالإمكان أن يكون الطب موضوعا لنقد ثقافي؟

وهل بالإمكان قراءة الطب بوصفه نتاجا ثقافيا, أو ممارسة بشرية تتأثر بكل ما يحيط بها من متغيرات؟

هل يتأثر الطب بالتغيرات الثقافية والحضارية والمعرفية لأمة من الأمم؟

هل يستوجب تغير الأنساق المعرفية تغيرا في الممارسة الطبية وفي التصورات الطبية؟

هل للمناخ الثقافي العام أو المناخ المعرفي العام أو نسق العلاقات بين العلوم والمعارف (الابستيم بمفهوم ميشيل فوكو) تأثير في الممارسات أو التصورات الطبية عن المرض والصحة أو الجسد والنفس? هل للطب علاقة بنوع الرؤية الكونية التي يتبناها المجتمع? هل بالإمكان معاينة الطب بوصفه ممارسة تأويلية, يكون الجسد هو نصها, والشفاء هو بمثابة البحث عن المعنى, وعمليات العلاج هي ذاتها عمليات قراءة النص? هل بالإمكان معاينة الطب من منظور علاقات القوة والمعرفة, بحيث يكون الطب معرفة وأداة من أدوات الهيمنة? هل بالإمكان المقارنة بين »التعددية الثقافية«, وما يمكن تسميته بـ»التعددية الطبية«? وأخيرا هل بامكاننا النظر الى الطب والممارسة الطبية من منظور مغيار ومن أفق مختلف عما هو سائد اليوم؟

إن أي متأمل لتطور الممارسات والتصورات الطبية منذ القديم حتى العصر الحديث لا يمكنه إلا أن يعترف بأن الطب- من حيث هو خطاب معرفي وممارسة بشرية- نتاج ثقافي, وأيديولوجيا بقدر ما هو تطبيق علمي منضبط, بل ان هذا »التطبيق العلمي المنضبط« تابع للطب من حيث هو نتاج ثقافي. بدليل أن البعض قد يتساءل: هل كان الطب دائما تطبيقيا علميا منضبطا? هل كان طب الهنود والصينيين والعرب المسلمين واليونان والرومان وشعوب أفريقيا وغيرها, هل كان الطب عند هذه الشعوب ممارسة علمية تجريبية منضبطة دائما? إن الطب بما هو خطاب معرفي وممارسة بشرية يستبطن نسقا من العلاقات بين الانسان وبين ما يحيط به من بشر وكائنات وكون وخالق وغيبيات وتصورات وغيرها. إنه باختصار يستبطن »رؤية كونية« معينة, وبناء على هذه »الرؤية الكونية« للعالم والبشر والكائنات تتحدد نوعية الممارسة الطبية المشروعة. وعلى هذا فإن ممارسة طبية قد تكون مشروعة في ثقافة ما ومجتمع ما, غير أنها قد تنقلب إلى ممارسة غير مشروعة في ثقافة ومجتمع مختلفين. فما هو ممارسة طبية سليمة ومشروعة قد تغدو ضربا من الخرافات أو السذاجة العلمية أو القسوة غير المقبولة وغير الإنسانية. وهذا ما ينطبق على الحجامة والكي والعلاج بالإبر الصينية ومداواة الجروح والكسور بالطين والعسل والقهوة ومعمول التمر وقشور بعض الفواكه وغيرها, كل هذه ممارسات كانت في يوم من الأيام ممارسات طبية مقبولة, وأصبحت اليوم إما ضربا من ضروب الغباء والجهل أو ضربا من ضروب الوحشية والقسوة. لماذا يحدث هذا? ما الذي يجعل ممارسة طبية مشروعة في ثقافة وغير مشروعة في ثقافة أخرى? وقبل ذلك هل يسمح لنا كل هذا التقلب والاختلاف في الممارسات الطبية أن نتحدث عن الطب بالإطلاق بوصفه »خطابا علميا حقيقيا ومنضبطا وتجريبيا«? أليس الأحرى بنا أن نتحدث عن الطب بوصفه نتاجا ثقافيا يستبطن نسقا من العلاقات البشرية والكونية المعتمدة في الثقافة التي يطبق فيها?

في »الكلمات والأشياء« كتب ميشيل فوكو مشخصا الابستيم المعرفي السائد في أوروبا في القرن السادس عشر: »إن على هذه المعرفة أن تستقبل في آن واحد, وعلى الصعيد نفسه, السحر والتبحر العلمي. ويبدو لنا أن معارف القرن السادس عشر كانت مؤلفة من خليط متقلب من المعرفة العقلية, ومن مفاهيم مشتقة من السحر, ومن تراث كامل ضاعف اكتشاف نصوصه القديمة من قدرات سلطته«.(1) وفي السياق ذاته كتب دافيد لوبروتون في »أنثروبولوجيا الجسد والحداثة«: »إن الحضارة في القرون الوسطى, وحتى في عصر النهضة, هي خليط مبهم من التقاليد الشعبية المحلية ومن المصادر المسيحية«.(2) إن ما يقوله فوكو ولوبروتون في هاتين الفقرتين يكاد ينسحب على كل معارف العصور ما قبل الحديثة. فالتنجيم, كما يقول فوكو لم يكن ضديدا أو شكلا منافسا للمعرفة العلمية, بل هو يشكل جسما واحدا مع المعرفة العلمية. كما كانت الكيمياء خليطا غريبا من الممارسات السحرية والعلمية, وكذلك كان الطب خليطا من ؛المعرفة التجريبية« والممارسات السحرية. إن السحر, كما يقول فوكو, كان ملازما للمعرفة. أما حين ندخل في القرن الثامن عشر فصاعدا, فان السحر, شريك المعرفة ولزيمها القديم, قد أقصى واعتبر شعوذة وخرافة وشكلا غير علمي ولا يمت إلى المعرفة العلمية بصلة. هذا ما كان يتم في الثقافة الغربية بحسب تشخيص ميشيل فوكو, أما ما كان يتم في الثقافات والمناطق الأخرى خارج أوروبا فأمر مختلف, حيث كان الطب خطابا وممارسة يمثل خليطا من المعارف الدينية والممارسات السحرية والمعرفة العلمية والخبرة الشعبية. إذا كانت أوروبا قد دخلت في عصر النهضة والتنوير, وإذا كان خطاب النهضة والتنوير قد شدد على ضرورة تحقق المعرفة العلمية العقلانية والتجريبية المنضبطة وإبادة كل أشكال المعارف, السحرية والدينية والشعبية, ونفيها خارج دائرة المعرفة المقبولة والمشروعة والمعتمدة,أي خارج دائرة »المعرفة العلمية«, إذا كان ذلك قد حدث في أوروبا فهو لم يحدث في أغلب الثقافات والمناطق الأخرى. لماذا إذن نجد خطاب الطب كممارسة تطبيقية تجريبية ومنضبطة هو الخطاب السائد في أغلب الثقافات حتى غير الأوروبية? لماذا انحسرت الممارسات الطبية المحلية في الثقافات لصالح ممارسات طبية أجنبية »غربية« في المقام الأول? إن تزامن التقدم ؛العلمي« الكبير في الطب في أوروبا في القرن التاسع عشر والعشرين مع تصاعد موجة التوسع الامبريالي للامبراطوريات الاستعمارية الغربية, يطرح سؤالا ملحا عن العلاقة بين التوسع الاستعماري الغربي وبين انتشار الطب الغربي? كما بين »الطب الامبريالي والمجتمعات المحلية«? وهذا الأخير عنوان كتاب حرره »دافيد أرنولد« سنة 1988, وقام مصطفى ابراهيم فهمي بنقله الى العربية, ونشر في سلسلة عالم المعرفة العدد 236 سنة 1998, وكان هدف الكتاب هو استكشاف أهداف الطب الغربي الامبريالي في القرن التاسع عشر والعشرين, وتأثير هذا الطب في المجتمعات المحلية التي خضعت للاستعمار.

وسواء اتفقنا مع رؤية هذا الكتاب أم لا, فإن الأهم من هذا الاتفاق أو عدمه هو أن التجربة الاستعمارية واعتمادها على الطب كعتاد رئيسي في المواجهة, تطرح علينا سؤالا فحواه: هل بالإمكان معاينة المواجهة بني الامبراطوريات الاستعمارية والمجتمعات المحلية بوصفها صراعا على نمط معين من »الممارسات الطبية« المقبولة? وهل بالإمكان معاينة هذا الصراع على مشروعية أي ممارسة طبية بوصفه صراعا ثقافيا على صحة ؛رؤية كونية« ما وأحقية نسق معرفي ما? إن تأمل طبيعة المواجهة بين المستعمر والمجتمعات المحلية, وبين رديف المستعمر وشريكه, أي المبشر, وبين الناس الذين تجشموا الصعاب لنشر الدعوة بينهم, إن هذا التأمل كفيل بأن يفتح أمامنا أفقا مختلفا لمعاينة تجربة المواجهة بين الثقافات, والتي يمثل الاستعمار أبرزها وأعنفها, بوصفها تجربة مكتنزة بالدلالات والمعاني العسكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية والمعرفية والثقافية والطبية, بحيث يكون التصادم بين الثقافات تصادما بين أنساق معرفية وممارسات تأويلية بقدر ما هو تصادم عسكري أو سياسي أو اقتصادي. وما نستهدفه هنا أن ندقق النظر في الممارسات الطبية بوصفها ممارسات تأويلية أولا, ونتاجا ثقافيا يتمثل نسقا من العلاقات بين البشر والكون ثانيا.

لم يكن الطب في أغلب الثقافات عبارة عن ممارسة علمية منضبطة, ولم يكن, كما يكتب فوكو في »الانهمام بالذات«, مفهوما فقط كتقنية تدخلية تستعين, في الحالات المرضية بالعلاجات والعمليات الجراحية« (3), بل كان شبكة من المعارف المختلفة التي تشمل علوم الجسد والنفس والفلك والأخلاق والنباتات والفلسفة والمعارف الدينية والسحر والكيمياء وحالات البيئة (برودة, حرارة..) وحتى الهندسة والخطابة كما يشير إلى ذلك ميشيل فوكو, ومن هنا فان طب ما قبل العصور الحديثة كان يعبر عن ضرب من العلاقات المتعددة بين العناصر التي تدخل في عملية التشخيص والعلاج. ففي الوقت الذي تكون فيه العلاقة في الطب الحديث علاقة ثنائية ضيقة, بين طبيب معالج وجسد مريض, فإن العلاقة في الطب القديم علاقة معقدة ومترابطة, بين شخص يشخص ويصف الدواء, وبين شخص يشكو من علة ما, قد تكون بسبب داخلي أو خارجي, محسوس أو معنوي, فمسببات هذه العلة قد تكون داخل الشخص المريض, في بدنه أو نفسه أو توهماته وتخيلاته, وقد تكون خارجه في الأفلاك والكواكب, كما في الكائنات الغيبية والقوى الخارقة.

إن الطب الحديث يقوم على علاقة ثنائية بين طبيب معالج وجسد مريض, وهو يتغيا من وراء الفحص اكتشاف مسببات المرض (التشخيص) بغية علاجه, وهي ذات العلاقة التي يقوم عليها الطب القديم. غير أن الاختلاف الحاد يكمن في عملية التشخيص والعلاج, إن الطب الحديث يراهن على أن مسببات المرض كامنة في الجسد المريض, ثمة خلل ما حدث في تركيبة هذا الجسد وقاده الى الاعتلال, ولعلاجه يجب أن نعدل أو نصحح هذا الخلل في تركيب الجسد بواسطة أدوية مصنعة أو تدخل جراحي. أما الطب القديم فإن مسببات المرض قد تكون كامنة في جسد المريض كما في نفسه, وقد تقع خارجه, وهذا الخارج له تأثير كبير في الإنسان, وهو قد يشمل العناصر المكونة للعالم وقد يشمل الكائنات الغيبية وقد يكون مجرد ابتلاء من الله سبحانه وتعالى. وبناء على هذا فان علاج المرض لا يكون بدواء او تدخل جراحي دائما.

من الواضح أننا أمام نسقين معرفيين مختلفين, نسق يعزل الجسد عن كل ما يقع خارجه, ونسق يدمج الجسد في تناغم مدهش مع كل ما يقع خارجه. والحديث عن الجسد بوصفه داخلا وخارجا إنما هو من تأثير سيادة التصور الغربي العقلاني العلماني للجسد. إن للجسد, في المفهوم الحديث, حدودا تفصل بينه وبين ما عداه من نفس وكون وكائنات. انه أشبه بسياج يحيط بالشخص, بحيث يشعر الشخص ان هذا الجسد هو فقط حدود مملكته وامتداده, كما أنه سر تفرده وتميزه عن الآخرين والأشياء. وهو مفهوم مرتبط, كما يكتب لوبروتون, »بصعود الفردية كبنية اجتماعية, وبانبثاق فكر عقلاني ووضعي وعلماني حول الطبيعة, وبتراجع تدريجي في التقاليد الشعبية المحلية« (4), هذه التقاليد التي لم تكن تفصل بين الجسد والنفس, بين الشخص والآخرين, بين الانسان والأشياء من حوله, والغيبيات من فوقه وتحته, في أغلب المجتمعات القديمة لا يتميز الجسد عن شخص صاحبه, فحين يقول »أنا« فلا يقصد الجسد فحسب بل يقصد ذاته كلية دونما شعور بانفصال بين الجسد ليكون »أناه الآخر«, كما ان الشخص في هذه المجتمعات لا يتميز عن الآخرين الذين يندمج معهم في علاقات اجتماعية مصيرية, بحيث يتحدث عن »نحن« الجماعة كما لو كان يتحدث عن »أناه« الخاصة. وهو كذلك لا يشعر أن هذا الجسد هو نهاية امتداده, بل هو ممتد في الكون والكائنات, فالمواد الأولية »التراب, والماء… « التي كونت الكون هي ذاتها التي كونته ولكن بطريقة مختلفة وبنسب متفاوتة. وهذا هو السر وراء الاعتقاد الطبي القديم في بعض المجتمعات التي كانت تؤمن بأن شفاء الانسان المريض قد يكون في معدن أو نبات, لا لشيء إلا لأنه يتشابه مع العضو المريض في الشكل أو المادة او التركيب, فالكستناء الهندية مثلا تساعد على الشفاء من البواسير, وحجر اليشب الأحمر يساعد في إيقاف نزف الدم, والطماطم تزيد نسبة الدم في الجسم. واضافة الى هذا الامتداد لذات الشخص في الآخرين والأشياء, فان هذا الشخص ليس قلعة منيعة محصنة من تدخلات الكائنات الغيبية, فقد يتلبسه جني, أو يوسوس له شيطان, أو يرشده ملاك, أو تطاله لعنة من جهة مجهولة, وتؤثر فيه كواكب سيارة. وهكذا لا يغدو الجسد, الآلة البشرية, هو نهاية الإنسان كما في التصور العقلاني والوضعي والعلماني الذي تحدث عنه لوبرتون, والذي اعتمده الطب الحديث كشكل وحيد ونهائي, وصادق عليه بوصفه التصور العلمي الحقيقي للجسد, ونشط في عملية إبادة كل أشكال الفهم والتصورات المختلفة عن الجسد, ومن ثم عن المرض والصحة والدواء والعلاج, أي عن الممارسة الطبية.

لقد تمت عملية تمكين الطب الغربي في العالم من خلال حركات الاستعمار والتبشير, حيث واجه هذا التدخل الغربي في المجتمعات المحلية مشكلة المرض بوصفها مصدر قلق وتهديد له وللسكان الأصليين. كانت الأوبئة (التي كان للأوروبيين دور في عولمتها في المجتمعات المحلية كأمراض الجدري والحصبة التي صاحبت الفتوحات الاسبانية للمكسيك والبيرو) والأمراض المعدية تسبب الكثير من القلق للمستعمر, مما كان يحول دون تمتعه بكامل الرفاهية والراحة وهو يستدر خيرات هذه الشعوب. فجأة ظهر التقدم الطبي في أوروبا باكتشاف الميكروبات التي تسبب بعض الأمراض المعدية كالكوليرا والسل. ومنذ ذلك انعقد بين الطب وحركة الاستعمار تحالف مريب, ومصالح متبادلة, مما يجعلنا ننظر الى الطب لا بوصفه علما منضبطا فحسب, بل توصيفا لعلاقات القوة والمعرفة كما شخصها ميشيل فوكو في »حفريات المعرفة« و»إرادة المعرفة«, وإدوارد سعيد في »الاستشراق« و»الثقافة والامبريالية« وغيرهما. فقد كان الطب أحد أسلحة المستعمر والمبشر معا, الاول اتخذه كأداة للسيطرة والتحكم, والثاني للاستدراج والاقناع والهداية إلى »طريق النجاة«. وعلى هذا يمكننا أن نفهم كيف يمثل التدخل الطبي الأوروبي في العالم تقدما وتحضرا? وكيف يصبح هذا التدخل مسؤولية إنسانية ملقاة على كاهل الحضارة الغربية? كانت السياسة الطبية بالمستعمرات البريطانية. كما يقول دافيد أرنولد في كتابه السابق, ترى أن إنشاء إدارة للصحة العامة في الهند هو جزء من مهمة »جلب حضارة ارقى الى الهند«, وكانت تعتقد أن إدخال الرعاية الطبية في الهند ليس جزءا من مهمة إنسانية نبيلة فحسب, بل هو أمر لا يقل عن كونه مثابة »خلق الهند خلقا جديدا«

لقد كان الطب أداة من أهم »أدوات الامبراطورية« التي سهلت مهمة التوسع في المناطق المختلفة, كان المستعمر المبشر لا يطأ أرضا  إلا مع حقيبته الطبية, ويبحث أول ما يبحث بعد منزل لسكناه, عن بقعة أرض تصلح لأن تكون مستشفى أو عيادة لعلاج السكان الأصليين. في سنة 1892 حين وصل القس الأمريكي والمبشر المعروف صموئيل زويمر الى البحرين قادما من البصرة, لم يكن في معيته غير »عدة الشغل«, صندوق الكتب الذي يشتمل على نسخ من الانجيل والكراريس المسيحية الأخرى, إضافة الى حقيبته الطبية التي كانت بمثابة الطعم الذي ينقاد الأهالي إليه طائعين أو مضطرين.

إن التأمل في حيثيات العلاقات الطبية بين الأهالي والمبشرين تكشف أننا أمام حالة من التصادم بين الممارسات الطبية المختلفة, بين الطب الغربي العقلاني والوضعي والعلماني وبين أشكال الطب المحلية في المجتمعات العربية والخليجية تحديدا. ويعكس هذا الصراع على مستوى الممارسات الطبية صراعا أعمق على مستوى الأنظمة الثقافية والأنساق المعرفية. ولنتأمل في هذه الأمثلة المأخوذة من مذكرات بعض المبشرين في الإرسالية الأمريكية الذين جابوا مختلف مدن الخليج والجزيرة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر, والتي قام خالد البسام بترجمتها في كتاب »القوافل« سنة 1993.

في سنة 1901 زار الطبيب المبشر شارون توماس مدينة المحرق, وتمكن من تأجير دكان يكون عيادة, ونشط مع البائعين المرافقين له في بيع الانجيل والكتب المسيحية على المرضى وبعض الأهالي الميسورين. وكتب في وصف تلك الحال ما يلي: »كان يأتي إلى العيادة مرضى من أجناس وأشكال مختلفة. فبعض الرجال كانوا يأتون الينا بأسلحتهم, وكانوا يشعرون الطبيب بنبضهم بشكل لافت (كذا) للنظر لاعتقادهم أن الطبيب يحتاج إلى أن يحس بنبضهم فقط لمعرفة حالتهم وآلامهم«.(6) وفي أحد الأيام جاء اليه رجل وطلب منه فحص عينيه. وبعد أن فحصهما حاول وضع الدواء مع القطور داخلهما لكن الرجل اعترض على ذلك بشدة. وكان سبب اعتراضه أنه أكل سمكا عند وجبة الفطور. وفهم الطبيب شارون »أن الكثير من أهالي المنطقة لديهم اعتقاد بان الدواء لن يكون مفيدا مع تناول السمك«.(7). وكان هذا الطبيب على علم بأن بعض المرضى يذهبون إلى بعض »الملالي« لكي يقرأوا عليه بعض التعاويذ. وفي أحد الأيام قام بنزع ضرس كبير لأحد المرضى, وقد قيل له, بعد ان استنفد كل طاقته, ان سبب الصعوبة التي واجهها ترجع »الى أن هذا الضرس قرأ عليه أحد الملالي في العام الماضي! «.(8)

أما المبشر هول فان فقد قام في عام 1915 بجولة في مدن البحرين وقراها, وقد شملت جولاته كلا من الرفاع وجو وعسكر. وقد واجه متاعب كثيرة نتيجة رفض الأهالي لخدماتهم, أما في قرية جو فقد ووجه برد حاسم من قبل إحدى الشخصيات في القرية. وكانت حجة هذه الشخصية تتلخص في هذه العبارة: »إنني لا أجد أي مرضى عندنا لكي تقوموا بعلاجهم, وإن شاء الله لن يكون هناك مريض واحد«.(9)

أما المبشرة كورنيلا دالينبيرج فقد قامت بالتجوال بالسيارة في قرى البحرين في عام 1925, وفي أثناء تجوالها في احدى القرى القريبة من المنامة, اضطرت هي ومرافقاتها إلى الصياح بالأهالي: »نحن أصدقاء وقد أحضرنا أدوية لمرضاكم«, وفجأة جاء جواب من أحد الأكواخ: لا… لا.. لا يوجد لدينا مريض واحد هنا« وتردد هذا الجواب في أكثر من كوخ, وعند ذلك ردت بالجواب: »ولا حتى مرضى عيون« وكانت الإجابة: ؛لا.. لا.. الله هو طبيبنا«.(01)

إن هذا الرد الأخير الذي انطلق من أحد الأكواخ في قرية من قرى المنامة: ؛الله هو طبيبنا«, يكثف بؤرة التصادم بين المنظومات العقائدية والأنساق الثقافية التي تتمثل في الممارسات الطبية. وهذا الرد ليس نابعا من خلفية محلية أو معرفة شعبية ساذجة, بل هو مدعم بتصور ديني إسلامي له خصوصيته في توزيع عناصر الممارسة الطبية. وهذا الرد ذاته يروى منسوبا إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم), فحين قدم »أبورمثة« إلى المدينة, توجه الى الرسول ؛صلى الله عليه وسلم) وقال: ؛إني رجل طبيب, وإن أبي كان طبيبا, وإنا أهل بيت طب, فأرني هذه التي على كتفك فإن كانت سلعة قطعتها ثم داويتها, قال: لا طبيبها الله وفي رواية »طبيبها الذي خلقها«, وفي رواية ثالثة: »الله الطبيب بل أنت رجل رفيق, طبيبها الذي خلقها«. في التصور الديني الإسلامي الله سبحانه وتعالى هو الطبيب, هو الشافي والمعافي, وقد يبتلي المرء بالمرض اختبارا له وتمحيصا لإيمانه (ونبلوكم  بالشر والخير فتنة), (ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات), أما العلاقة بين الطبيب »الله« وبين المريض المبتلى ففي الأعم الأغلب لا تكون علاقة مباشرة, بل تتم من خلال وسيط, هذا الوسيط هو البشر الذي تلقى معرفة متنوعة بين الدين وطب الحكماء الأوائل والفلسفة والفراسة والسحر والتنجيم وعلم النباتات والحيوانات. والسر في هذه المعرفة المتنوعة أن الطب القديم لم يكن طبا للجسد فحسب, بل طبا للجسد والنفس (وهذه هي الدلالة المتداولة لكلمة طب في اللغة العربية كما يذكر ابن منظور), والسبب الثاني أن الطب القديم لم يكن قد بلور تصورا عن استقلالية الجسد وانعزاله وتفرده كما هو في الثقافة الحديثة, بل كان يعتقد أن الانسان جسد وروح, أما الروح فهي من بقية الله سبحانه وتعالى, وأما الجسد فهو من بقية الأرض أو العالم المادي. لقد خلق الله آدم من تراب الأرض, وحين استوى بشرا نفخ فيه من روحه فكان إنسانا. وعلى هذا فان الإنسان ليس كائنا فريدا إلا في تركيبه من شيئين لم يجتمعا في كائن من قبل (ويدور نقاش في هذا التصور عما إذا كانت روح الحيوان روح إلهية من بقية الله سبحانه وتعالى أم لا), فهو من حيث الجسد امتداد للعالم المادي, مكون من عناصره ومواده, منه وجد وإليه يعود. ومن حيث النفس فهو امتداد إلى الله سبحانه وتعالى. أما الجسد فليس سجنا منيعا للنفس, بدليل أن النفس قد تفارق الجسد في حالات, مثل حالة النوم التي هي في التصور الإسلامي موت قصير. إن هذه الحالة من امتداد الإنسان من حيث الروح والجسد هي التي تسمح في ظل هذا التصور بالاعتقاد بتأثير الكائنات الغيبية ومواد الكون المختلفة من معدن ونبات وحيوان في الانسان, وعلى هذا فإن اسباب المرض ليست بالضرورة كامنة داخل الجسد, بل قد تكون في النفس, كما قد تكون في الخارج الغيبي أو المادي, وفي المقابل فإن الدواء الناجع لهذه الأمراض قد يكون في هذه الكائنات الغيبية أو في بعض مواد الأرض.

هذا هو خلاصة نسق التصور للممارسة الطبية في التصور الديني والمحلي, أما في الطب الحديث فإن الطبيب هو البشر الذي تلقى معرفة بيولوجية وصيدلانية وتشريحية وفيزيولوجية عن الجسد, وعلى هذا فإن العلاقة بينه وبين هذا الجسد علاقة مباشرة لا يتخللها أي وسيط قد يشوش الرؤية, أو يحرف الرسائل التي يبعثها الجسد (المرسل), إلى المرسل إليه (الطبيب). وبناء على هذا سيكون الجسد, هذا النص المغلق والمكتمل والممتلئ بالدلالات, هو موضوع الممارسة الطبية, التشخيص والعلاج والشفاء. لقد انقطعت الصلة الروحية بين الانسان وعالم الغيب, وكما انقطعت الصلة المادية بين الإنسان ومواد هذا العالم ومكوناته. لقد مزق الطب الحديث هذا التناغم الحميم بين الانسان وعالمي الغيب والشهادة الذي كان سائدا في كل من التصور الديني والشعبي قبل العصر الحديث, وبهذا انقطع الاتصال بين لحم الإنسان ولحم العالم, بين روح الإنسان وروح الله, ففي داخل هذا الجسد, هذا القمم العتيق والآلة البشرية الجميلة, يكمن الداء والدواء. وهذا ما جعل هذا الطب, كما يقول لوبروتون, طبا للجسد, وليس طبا للإنسان كما في التقاليد الشرقية(11) والطب الديني وغيرها من الممارسات الطبية المختلفة في العالم.

في احدى الدراسات التي قام بها موريس لينهارت عن مجتمع الكاناك الميلانيزي, ترد هذه الحكاية التي يرويها لوبرتون في كتابه عن »انثروبولوجيا الجسد والحداثة«: »استجوب موريس لينهارت المتطلع لأن يحيط بشكل أفضل باسهام القيم الغربية في العقليات التقليدية, شيخا من الكاناك, فأجابه هذا, ولينهارت في ذهول كبير, قائلا: »إن ما جلبتم إلينا, إنما هو الجسد« (12)!, أو بمعنى أدق هو هذا التصور الغربي للجسد بوصفه شيئا ماديا متفردا في تكوينه ومعزولا عن العالم في تركيبه. إن هذا التصور العقلاني الوضعي العلماني للجسد وللممارسة الطبية هو التصور الغربي الذي تمت عولمته ليكون هو التصور العلمي الطبي الوحيد الذي ينبغي اعتماده في كل الثقافات, وتدعيمه بالأنظمة والقوانين في كل المجتمعات, غير أن الهيمنة, كما يقول فوكو, تولد المقاومة, وبقدر عنف الهيمنة, يكون عنف المقاومة. إن هيمنة الطب الغربي بتصوراته الخاصة عن الجسد والممارسة الطبية قد لقيت معارضة كبيرة من قبل الثقافات المختلفة التي واجهت هذه الهيمنة, وفي أوج مرحلة ازالة الاستعمار, ومع اشتداد النضالات الآسيوية والأفريقية ضد الاستعمار, حدثت عملية مراجعة كبيرة لعلاقة الذات بالآخر والتراث, وكانت في الغالب مراجعة تذهب نحو التراث أو »العودة على الذات« القومية أو الدينية. وفي سياق العودة على الذات وإعادة الاعتبار للتراثات المحلية خرج بعض أصحاب النزعة القومية مطالبين بإحياء الطب المحلي كجزء من إعادة الاعتبار للتراث, وإعادة اكتشاف جذورهم الثقافية الخاصة بهم, ورفض هؤلاء, كما ينقل دافيد أرنولد, »وسائل العلاج الغربية الأجنبية«.(13)

وبعيدا عن هذه الاستجابات الانفعالية الحادة, فقد حدثت في السنوات الأخيرة عملية مراجعة أكثر هدوءا وروية للممارسات الطبية الحديثة, وكان من نتائجها عدة أمور كلها تصب في صالح إعادة الاعتبار للتصور القديم عن وحدة الإنسان (جسد+ نفس) ووحدة الوجود (الإنسان+ العالم الغيبي والمادي). أما الوحدة الأولى فيعبر عنها الطب النفسجسري (السيكوسوماتيك) الذي يعيد اللحمة بين النفس والجسد. وأما الوحدة الثانية فيعبر عنها شكلان من الممارسة الطبية الحديثة, الأول يسعى الى اعادة اللحمة بين جسد الإنسان والعالم المادي (المواد والعناصر), وهو ما يمثله الطب البديل أو الموازي الذي يعتمد على العلاج بالأعشاب ومواد الأرض والبحر وتنظيم الغذاء وأمور أخرى, أما الشكل الثاني فيسعى إلى إعادة اللحمة بين الإنسان وعالم الغيب, بين الإنسان وخالقه, وهو ما يسمى أحيانا ب-؛العلاج بالإيمان« ويمثله في العالم العربي أ.د أسامة الراضي الذي وضع المعطيات الحديثة, في الميدان النفسي, في خدمة ما أسماه بـ»النموذج الإسلامي للعلاج النفسي«.(14) وتحقيقا لهذا النموذج قام أسامة الراضي بتأسيس »الجمعية العالمية الإسلامية للصحة النفسية«, وجعل هدفها إحياء »الطب النبوي«. ومن وسائل العلاج التي يعتمدها الدكتور اسامة الراضي العلاج بـ»الصلاة« بصورة مفردة وجماعية, وقراءة القرآن, والذكر والدعاء والاستغفار, والصدقة, والرقى, وزيارة المسجد, والاستماع الى خطب الجمعة… «.

تعكس هذه المراجعات الرغبة الشديدة في إعادة الصلة التي انقطعت بين الإنسان وعالمه الذي يحيط به, وكما تعكس الحاجة الملحة إلى ضرورة إشاعة مفهوم »التعددية الطبية« الذي تمت إزاحته لصالح وحدانية في الممارسة الطبية لا تعترف إلا بهذا الجسد ولا شيء غيره. فإذا كان انقاذ المجتمعات الإنسانية من الحالات الصراعية التناحرية يكمن في الإيمان بقيمة »التعددية الثقافية«, فإن إنقاذ وحدة الإنسان والعالم يكمن في الإيمان بـ»التعددية الطبية«, وبتصورات مختلفة للجسد وللممارسة الطبية.

الهوامش

1 – ميشيل فوكو, الكلمات والأشياء, تر: مطاع صفدي وآخرين, بيروت: مركز الانماء القومي, 1990, ص50.

2 – دافيد لوبروتون, انثروبولوجيا الجسد والحدتثة, تر: محمد عرب صاصيلا, بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, ط:1, 1993, ص27.

3 – ميشيل فوكو, الانهمام بالذات, تر: جورج ابي صالح, بيروت: مركز الإنماء القومي, 1992, ص70.

4 – انثروبولوجيا الجسد والحداثة, مرجع سابق, ص6.

5 – دافيد ارنولد وآخرون, الطب الامبريالي والمجتمعات المحلية, تر: مصطفى فهمي, ع:236, 1998, ص15.

6 – القوافل: رحلات الإرسالية الأمريكية في مدن الخليج والجزيرة العربية 1901- 1926, إعداد وترجمة: خالد البسام/ البحرين, ك1, 1993, ص24.

7 – المرجع السابق, ص24.

8 – المرجع السابق, ص26.

9 – المرجع السابق, ص119.

01 – المرجع السابق, ص189- 190.

11 – انظر: انثروبولوجيا الجسد والحداثة, مرجع سابق, ص9.

21 – المرجع السابق ص61.

31 – دافيد ارنولد, المرجع السابق, ص45.

41 – اسامة الراضي, نموذج اسلامي للعلاج النفسي, مجلة »الثقافة النفسية«, العدد: 16, المجلد: 4, 1993, ص57.

*نادر كاظم كاتب من البحرين