أنثروبولوجيا التأبيد الاجتماعي 2/2

PierreBourdieu-SurLaTelevision

أنثروبولوجيا التأبيد الاجتماعي

نظرية الممارسة عند بيير بورديو .. تأبيد الهيمنة الذكورية

بقلم: أحمد سالم ولد عابدين

الجزء الأول

المبحث الثاني: ميكانيزمات التفاعل بين مفاهيم النظرية :

العلاقة بين الحقول :

 إن  لكل حقل خصوصيته فهو يتحدد برؤوس أموال نوعية، و بهابيتوسات خاصة به، كما أنه يشتغل وفق آليات تمكنه من إعادة إنتاج ذاته. إذ أن لكل مجال قانونه الخاص الذي يحكمه، فللمجال السياسي قانونه ، و للمجال الرياضي قانونه، و كذلك للمجال الفني قانون خاص به يحكم به ، وإذا كان كل مجال يتحدد بجملة خصائص تعزلهعن غيره من المجالات فإن ذلك يعني أن العلاقة بين المجالات المختلفة هي علاقة انفصال ( لكن هذا الانفصال هو فقط في حدود اشتغال النسق الداخلية) و لذلك نجد أن ما يعزل مجالا ما عن المجالات الأخرى هو ” كونه يعين الرهانات و المصالح النوعية التي لا يمكن اختزالها في الرهانات و المصالح الخاصة بحقول أخرى، إذ لا يمكن أن نجعل الفيلسوف يدخل في رهانات مع عالم الجغرافيا”[1]. غير أن العلاقة بين المجالات تبقى قائمة في مستويات أخرى إذ أن المجالات تتداخل في شكل دوائر، إذ يمكن الحديث عن مجال خاص النطاق و مجال عام النطاق يتداخلان في ما بينهما و يتأثر كل منهما بالآخر.

و هذه التداخلات في المجالات هي ما يفسر كون المشتغلين في مجال ما قد يربطون اشتغالهم ذاك بمجال آخر ” فالمجال الرياضي على سبيل المثال له رأس ماله الخاص الذي يقتصر على فاعلين محددين ( اللاعبين ، المدربين ، النقاد المتخصصين) و يكون التفاعل في هذا المستوى داخل الدائرة الخاصة بالمجال (…) و لكن الرياضة كمجال يمكن أن تكون نقطة التقاء مع المجال الاقتصادي ( تسويق الرياضة) و السياسي ( تسييس الرياضة) و الثقافي ( تذوق الرياضة) ، و هنا ينتقل المجال إلى المستوى العام و يصبح المجال الرياضي ساحة للعب و للإستثمار النوعي في الوقت ذاته”[2].

و في العصر الحاضر فإن المجال السياسي و المجال الاقتصادي، بوصفهما أقوى المجالات ، يسعيان إلى التدخل الواعي و الساعي إلى إضعاف أي مجال آخر حتى لا ينافسهما من كل المجالات الأخرى، فالصراع كذلك يمتد لتكون ساحة مجال ما هي ساحة لصراع مجالات مختلفة ، ف”تطفل المجال السياسي والاقتصادي على المجالات المختلفة للمجتمع يؤدي إلى حالة من التشوش و الارتباك المقصود”[3]. إن ذلك يدخل ضمن السعي إلى الهيمنة دائما. لكن الدخول في مجال معين من طرف أعضاء مجال آخر لا يمكن أن يحقق أي نتيجة إلا إذا سعى هؤلاء الأعضاء إلى امتلاك الرأس مال النوعي الخاص بذلك المجال ، فرجال الرياضة مثلا لا يمكن أن يحققوا أية نتائج في دخولهم في مجال الفن إلا إذا تحصلوا على رؤوس أموال نوعية فنية.

2 – العلاقة بين رؤوس الأموال :

تتفاعل رؤوس الأموال النوعية ( الرأس مال الاقتصادي ، الثقافي ، الاجتماعي …الخ) في ما بينها فكل منها يؤثر ويتأثر بالآخر. و تتنافس داخل الحقل الواحد عدة رؤوس أموال نوعية مختلفة لمراكتمها و استثمارها من طرف الأعوان لتتحول إلى رأس مال رمزي يخول صاحبه إمتيازات يعزز بها مكانته ويرتقي من خلالها إلى هرم التراتبية الاجتماعية. إن أنواع الرأس مال المختلفة ترتبط ببعضها و يمكن زيادة رصيد الفاعل الاجتماعي من أحدها إنطلاقا من توظيفه لرأس مال نوعي آخر” فبورديو مثلا لم ينعم برأس مال اقتصادي موروث ، فهو ينتمي إلى أسرة فقيرة، و لكنه حصل على أكبر قدر من الرأس مال الثقافي عبر التفوق العلمي. و بعد اعتراف الجماعة العلمية الفرنسية بهذه الجدارة، اكتسب بورديو رأس مالا رمزيا – مكانة رفيعة – داخل المجتمع، و في الوقت نفسه كان كل من الرأس مال الثقافي و الاجتماعي و الرمزي السبب الرئيسي لازدهار رأس ماله الاقتصادي”[4].

 

الحقل كمسرح للتفاعلات :

 لا يمكن فهم الحقل بمعزل عن الأحداث التي تجري فيه ، فالحقل هو مجال ممارسة السلطة  وبسط الهيمنة، و التفاعلات داخل الحقل تنطلق من المراكز التي يشغلها الأعوان داخل الحقل، فبداية الصراع ليست من مراكز متساوية ، بل من مراكز  تراتبية ناتجة عن امتلاك الأفراد لهابيتوسات مختلفة و لرؤوس أموال نوعية مختلفة، ” وتدور رحى هذا الصراع (…) من أجل فرض مقولات الإدراك و التقييم الشرعية و احتكارها، فالمفاهيم و الأنساق الرمزية و أسماء المدارس أو الجماعات و أسماء الأعلام ليست مجرد وسائل للمعرفة، بل إنها وسائل للسيطرة و فرض الهيمنة أيضا”[5].

إن تاريخ الحقل إذن هو تاريخ يتشكل عبر الصراع بين المسيطرين المتحكمين من جهة و الوافدين الجدد من جهة أخرى ، الذين يسعون إلى السيطرة على الحقل أو الارتقاء في التدرج الهرمي للمراتب داخل الحقل.

إن تبني أي وافد جديد أو إعادة أو تغيير لم يكن معروفا في مرحلة متأخرة من حياة جيل ما هو نتيجة لذلك الصراع الذي ظل مستمرا بين أصحاب المراكز العليا و الطامحين الآخرين انتهى بحسم الصراع لصالح الفئة الطامحة، أما إذا لم يحسم لصالحها فيظل الحال على ما كان عليه مسبقا و بالتالي لا يشهد الحقل أي تغيير فلا يحدث أي تغير اجتماعي على المستوى الذي دار حوله الصراع. إن كل حقل هو مجال للصراع و مسرح لعمليات محاولة القلب و السيطرة على المناصب المهمة في الحقل. و قد درس بورديو الكثير من الحقول ليبين أن كلها هي مسارح لهذا النوع من عمليات التفاعل ، حتى تلك التي توحي لأول مرة أنها في معزل عن عمليات الصراع و التنافس.

لقد درس بورديو مثلا حقل الأدب و حقل الفن و حقل السياسة و الاقتصاد و الموضة…الخ ، وبين من خلالها أن الحكم القيمي هو دائما حكم على الشيء انطلاقا من المركز الذي يحتله العون الاجتماعي صاحب ذلك الحكم داخل الحقل، و بالتالي فلا وجود لهذا المجال لمعايير خارج دائرة التفاعل و الصراع داخل الحقول. المجال إذن هو مسرح للتفاعل يتحدد من خلال هذا التفاعل أيضا ، يقول بورديو  ” فمحرك المجال هو الصراع الدائم داخل المجال (…) و ما يحدد بنية المجال كما أراها هو أيضا مبدأ حركيته “[6].

المجال كما تقدم دائرة للصراع و التنافس غير عادلة نتيجة الاختلاف في رؤوس الأموال النوعية و الهابيتوسات ، و بالتالي المراتب التي يحتل الفاعلون داخل المجال.

 

الفصل الثالث : نظرية الهيمنة :

 

الهيمنة الذكورية :

في سبيل نقده لعلماء الاجتماع الذين يغفلون عن عمد أو عن غير عمد تبيان الهيمنة و السيطرة المتأصلتين في جميع نواحي الحياة الاجتماعية، يأخذ بورديو مثال الهيمنة الذكورية في المجتمعات البشرية ، و التي أصبحت تعتبر بفعل العوامل التاريخية و التأبيد الاجتماعي و كأنها معطى طبيعي حكمت به الطبيعة. و يبين بورديو أن هذه الهيمنة أصبحت قائمة في اللاشعور المجتمعي بسبب آليات السيطرة وإعادة الإنتاج. فإذا كان غالبية العلماء يرون أن القسمة البيولوجية بين الجنسين هي الأساس الذي تقوم عليه الهيمنة الذكورية ، فقد حاول بورديو تحليل ميكانيزمات الهيمنة بنوع من الحفر الجينالوجي لكشف الآليات المسؤولة تاريخيا عن تأبيد الهيمنة الذكورية و اعتبارها ظاهرة طبيعية.

و هكذا ألف بورديو كتابا عن الهيمنة الذكورية أصبح فيما بعد مرجعا تستعين بيه العديد من الحركات النسوية العالمية ، و غرض بورديو من الكتاب هو ان يتتبع مسار هذه الهيمنة الذكورية عبر التاريخ و يفكك الآليات التي تتحكم فيها لإظهار أن هذه الهيمنة إنما هي إنشاء اجتماعي تعمل القوى التي تسيطر على المجتمع على تأبيده حتى ظهر بمظهر الشيء الطبيعي، و ” هكذا يطرح بورديو للنقاش في هذا الكتاب المسألة التي يستحضرها بشكل هجاسي غالبية المحللين…، عن أوجه الدوام أو التغير… في النظام الجنسي”[7].

إن الحقل الذي تنتج فيه التفاعلات الجنسية هو حقل يخضع لكافة الآليات التي تخضع لها الحقول من حيث أنه مجال للسيطرة و الهيمنة و الصراع و محاولة كسر هذه الهيمنة و إعادة إنتاج موازين القوى و تأبيد النظام و المسلمات القائمة في الحقل و التي تخدم القوى المهيمنة.

كما و أن الداخلين في هذا الحقل سواء كانوا مهيمنين أو طامحين جدد يدخلون برؤوس أموال و هابيتوسات يستثمرونها في عمليات التفاعل و الصراع داخل الحقل. و يرى بورديو أن النظريات التي قاربت موضوع العلاقة الذكرية الأنثوية من نظريات مادية أو غيرها هي نظريات ساذجة. إنه النظام الجنسي ، ” إنه في الواقع: الاستجلاب و الترتيب لذلك التناوب الساذج و المعياري بسذّاجه الذين يسوقان إلى أن نتعقل ، على عكس كل بداهة المعاينة للثبات النسبي للجنسية و التقسيمات، التي عبرها تدرك بوصفها أسلوبا مرذولا و مُدانا على الفور، و خاطئة و مرفوضة على الفور، عبر التذكير بكل التحولات لوضع النساء، و إدانة التغيرات لذلك الوضع”[8]. إن كشف النقاب عن ميكانيزمات الهيمنة جعلت بورديو لا يكتفي بالبحث عن هذه الهيمنة في مجتمعات القبائل في الصحراء الجزائرية ” التي توفر وسائل تسمح بفهم بعض من السمات الأكثر تسترا مما هي عليه هذه العلاقات في المجتمعات المعاصرة الأكثر تقدما اقتصاديا”[9]، بل استعان بالمؤلفات و الخبرات التي كشفت النقاب ولو جزئيا عن مسار هذه الهيمنة مثل………………………..

لقد سعى بورديو، كما سعت الحركات النسوية إلى نقد الأفكار التقليدية المتوارثة اجتماعيا سواء من لدن العامة أو من لدن الثقافة العالمة المنتجة من طرف العلماء، بخصوص النظر إلى الهيمنة الذكورية على أنها معطى طبيعيا ناتج عن التقسيم البيولوجي بين الجنسين.

و قد سعت قبل ذلك عالمة الانتروبولوجيا الأمريكية مارغريت ميد من خلال دراستها لمجتمعات مختلفة إلى أن تبين أن الهيمنة الذكورية هي هيمنة غير طبيعية، وهي كذلك هيمنة لا تجد أساسها و مبررها في البيولوجيا. و ليست الفروق الجنسية بين الجنسين عائدة إلى البيولوجيا بل هي عائدة إلى المعطيات التاريخية و الثقافية والاجتماعية0

لقد وجدت ميد أن مجتمع الآراباش يعلم الأطفال منذ الصغر معاني التضامن و تفادي الأعمال العدوانية الموجهة إلى الجنس الآخر، و الاهتمام بهذا الجنس و إيثاره في الكثير من الحالات على النفس ، وبهذا لا يشعر الأفراد في مجتمعات الآراباش بالفروق الجنسية القائمة على الاستبعاد و العنف الرمزي خاصة، و أحيانا أخرى العنف المادي. و أما مجتمع الماندوغومور فبالرغم من أن الفظاظة و الغلظة هي صفة تتم تنشئة الأفراد عليها سواء كانوا ذكورا أو إناثا فهي مجتمعات لا تعرف الحنان و العطف، و لكن رغم ذلك لا نجد قيام فروق بين الجنسين في التعاملات و بالتالي لا نجد أي نمط من أنماط الهيمنة.

و تذهب ميد أبعد من ذلك في تفنيد النظريات القائلة بطبيعة الهيمنة الذكورية، عندما تجد أن مجتمع التشنبليون يقلب المعادلة حيث تتحول الهيمنة الذكورية في هذا المجتمع إلى هيمنة أنثوية ، فالمرأة في هذه المجتمعات هي المسيطرة ، و تعمل آليات اشتغال الحقول في هذه المجتمعات على إعادة إنتاج الهيمنة الأنثوية. و بالتالي فقد استخلصت ميد أن السمات الجنسية هي سمات لا يحددها الجنس إلا تحديدا سطحيا، و إنما تحدد من خلال محددات أخرى كالثقافة و التربية و التعليم، فالطبيعة البشرية في بعض خصائصها تخضع باستمرار للتأثيرات المنتقلة إليها من طرف الكيانات الثقافية و الاجتماعية … الخ و تذهب ميد في دراستها لهذه المجتمعات بعيدا عندما تؤكد أن تقسيم العمل ، الذي ظلت النظريات التقليدية ترجعه إلى الفروق الجنسية ، ما هو إلا ممارسات اجتماعية، فنساء و رجال الآرابيش يظهرون على السواء سمات الأنوثة فالغاية من الحياة هي الإنجاب، حيث تعتقد هذه المجتمعات أن الرجال أيضا يتعرضون لآلام المخاض و هم كذلك يشاركون في جميع الأعمال المنزلية.

و على العكس فرجال الموندوغومور و نساءهم يتضايقون على السواء من تربية الأطفال، و توجد لدى كل منهم جنسية إيجابية تسعى إلى العنف و الفظاظة، بل إن النساء يعاملن الأطفال على أنهم منافسون ينبغي التخلص منهم و السيطرة عليهم و كذلك يفعل الرجال. إنهم إذن يولدون ولديهم استعدادات للين و الشدة و هذه الاستعدادات يتم غرسها في هابيتوساتهم للسيطرة أو الخنوع.

يذهب بورديو إلى هذه الرؤى أبعد عندما يعتبر أن الهيمنة هي معطى تاريخيا ساهمت الكثير من العوامل في تشكيله و تأبيده، و يدعو بورديو إلى أن ” نتساءل عن ما هي الآليات التاريخية التي هي مسئولة عن نزع التاريخانية و التأبيد النسبيين لبنى التقسيم الجنسي و مبادئ الرؤية المتناظرة”[10]. و يرى بورديو أن المسئول عن تأبيد الهيمنة الذكورية هو ” مؤسسات ( متواصلة في ما بينها) كالعائلة و الكنيسة و الدولة و المدرسة، و كذلك على نحو آخر ، الرياضة و الصحافة”[11].

لقد طغت نظريات البنية الاجتماعية على نظريات الفعل الاجتماعي في مجال الهيمنة الذكورية ، و لذلك يعتبر بورديو أنه يسعى من خلال دراسته هذه عن الهيمنة إلى أن يعيد ” إلى الفعل التاريخي العلاقات بين الجنسين التي تنتزعها منه الرؤية ذات المنزع الطبيعي و ذات المنزع الجوهري”[12] . و بما أن الهيمنة الذكورية هي فعل سيطرة على النساء متشكل عبر التاريخ و ليس في الطبيعة فقد سعى بورديو إلى محاولة  نقد هذه الهيمنة من أجل انتزاع بعض حقوق النساء التي أُنتزعت منهن عبر التاريخ ، لذلك نجده يسانده حركات التحرر النسوية و يدعو إلى أن ” توفر للنساء الإمكانية لفعل جماعي من المقاومة ، موجهة نحو إصلاحات حقوقية و سياسية، تعارض الخنوع الذي تشجع عليه كل الرؤى الجوهرية ( البيولوجية و التحليلية النفسية) عن الاختلاف بين الجنسين”[13]0

لقد تمت التسميات الجنسية للجنسين و خاصة الأعضاء الجنسية بكلمة تدل على معاني القوة للرجل و معاني الضعف للمرأة مما أدى و يؤدي إلى أن السيطرة تبقى ذكورية دائما و مما يؤدي كذلك إلى أن تظل إعادة إنتاج علاقات القوة قائمة، ” و بربطنا بين الانتصاب القضيبي و الدينامية الحيوية للإنتفاخ التي هي ملازمة لكل سيرورة إعادة الإنتاج الطبيعية ( إنبات ، حمل …الخ) ، فإن البناء الاجتماعي للأعضاء الجنسية يسجل رمزيا بعض الخاصيات الطبيعية المسلم بها و يقرها”[14].

لقد فُرضت على النساء عبر التاريخ أسماء و ألقاب يراد منها الخضوع من طرفهن للرجال. و نتيجة لهذا الفرض أصبحت النساء تتقبلن بشكل لا واعي كل ما يفرض عليهم اجتماعيا على أنه من فعل الطبيعة ، فعندما ” يُطبق المهيمن عليهم لمن يهيمن عليهم ترسيمات هي نتاج للهيمنة ، أو بتعبير آخر، عندما تُبنين أفكارهم و إدراكاتهم طبقا لبنى علاقات الهيمنة ذاتها المفروضة عليهم، فإن أفعالهم من أمر المعرفة المتعلقة بهم، هي حتما ، أفعال إعتراف و خضوع”[15].

غير أن حقل الهيمنة هذا ، إذا كان حقلا يهيمن عليه الذكور، فإن الصراعات داخله تظل قائمة بين المسيطرين و الطامحين إلى كسر السيطرة كما يحدث في أي مجال آخر. و تتخذ النساء العديد من الاستراتيجيات الساعية إلى كسر هذه الهيمنة أو التخفيف من آثارها المادية أو الرمزية، و يساعد على هذه الإستراتيجية وجود اختلاف عام حول معاني الأشياء ، و خاصة الوقائع الجنسية ، فإذا كانت التقسيمات التي يفرضها الرجال على الفروق في الأعضاء الجنسية و التي تجعل الأعضاء الذكرية يقابلها نوع من الهيمنة مثل كلمة أعلى ، فوق ، أمام ، يمين ، مستقيم ، جاف ، صلب ، مضيء…الخ فإن هذه التقسيمات كذلك تجعل الأعضاء الجنسية كذلك ترمز إلى كل ما هو عديم الفائدة: أسفل – تحت ، وراء ، شمال ، مقوس ، رطب ، رخو…الخ. هذه الاستعارات هي ما يتم عن طريقه تلقين العنف الرمزي الموجه ضد النساء حتى لا تشعرن بأي إمكانية للفاعلية داخل الحقل الاجتماعي إلا تلك التي يحددها لهن الرجال.

أما عن الاستراتيجيات التي تتخذها النساء فتنبع من نفس الاختلاف حول معاني أشياء العالم إذ أن ” اللاتحدد الجزئي في بعض الموضوعات يسمح في الحقيقة بتأويلات متناقضة تتقدم للمهيمن عليهم إمكانية المقاومة ضد أثر الفرض الرمزي” [16]. فإذا كان الرجال قد استخدموا الاستعارات لتفوقهم فإن النساء يلجأن إلى نفس الاستعارات ” للتفكير في الخاصيات الجنسية الذكورية مماثلة للأشياء بالمدلاة و الرخوة و عديمة العنفوان المستعملتين أيضا للبصل أو اللحم المشكوك أو Acherbub بمعنى العضو الرخو عديم العنفوان للمسن (….) و حتى الاستفادة من الحال المنقوصة للعضو الذكوري من أجل تأكيد فوقية العضو الأنثوي- كما في القول المأثور ( أنتَ ، كل عدتك تتدلى ، تقول المرأة للرجل، بينما أنا حجر مرصوص)”[17]. تعمل هذه الاستعارات على تشديد الفروق بين الجنسين و بما أن الرجال هم المهيمنون فإن المرجعية و المعيار تتحددان من خلال تصورات الرجال عن العلاقة بين الجنسين و ما ينبغي أن تمثله هذه العلاقة في الحياة الاجتماعية من خضوع من طرف النساء و تسليمهن بدونيتهن الاجتماعية.

إن التشديد على الفروق هو إذن من أجل تبرير الأوضاع الاجتماعية القائمة. فعلماء التشريح في بداية القرن العشرين ” حاولوا مكملين بذلك خطاب الوعاظ الأخلاقيين، أن يجدوا في جسد المرأة التبرير للوضعية الاجتماعية التي خصوه بها بإسم التعارض التقليدي بين الداخل و الخارج و بين الحساسية و العقل و بين السلبية و الفعالية”[18]. و الملاحظ أنه في أوربا القرون الوسطى لم يكن التشديد على الفروق الجنسية و دورها في التدرج الاجتماعي قائما حيث ” لم نكن نملك مفردة تشريحية لتوصيف عضو المرأة بالتفصيل و الذي نتمثله و كأنه مؤلف من الأعضاء نفسها التي للرجل”[19] .

إن هذه التقابلات في التقسيمات التي هي نتاج اجتماعي أكثر من كونه نتاجا بيولوجيا أو معطى طبيعيا، و هذه الثنائيات المتقابلة، هي ما يبرر النظام الاجتماعي الذكوري القائم ” و يتبع ذلك أن الموقع الذي يعتبر عاديا ، هو منطقيا الموقع الذي يجد فيه الرجل نفسه و قد استعاد الغلبة”[20]. و بما أن الرجل هو العلوي في التدرج الاجتماعي فإن الأوضاع الجنسية كذلك تقوم على أن الرجل يكون في وضعية فوقية عند ممارسة العملية الجنسية. فالمرأة لا يمكنها أن تكون في وضعية فوقية لأن ذلك يعني أن وضعها الاجتماعي أصبح فوق وضع الرجل، لذلك نجد أن ” الوضع الحبي الذي تضع وفقه المرأة نفسها على الرجل مدان علنا في عدد كبير من الحضارات”[21]. إن الفعل الجنسي بهذا يخضع لعلاقات الهيمنة. و العلاقات الجنسية أيضا هي مجال للصراع فالرجال ينظرون دائما للعملية الجنسية على أنها تملك أو هيمنة أما النساء فتنظر إليها على أنها وضع طبيعي للهيمنة الذكورية أو على أبعد الحدود أنها صراع من أجل كسر الهيمنة.

و يذهب بورديو إلى أن الأجساد تُبنى اجتماعيا ، أي أن تلك الفروقات في الأعضاء التشريحية للجنسين هي من فعل النظام الاجتماعي، ” إن القوى الخاصة لتبرير النظام الاجتماعي الذكوري إنما تأتيه من أنه يراكم و يكثف عمليتين : إنه يشرعن علاقة هيمنة من خلال تأصيلها في طبيعة بيولوجية هي نفسها بناء إجتماعي مطبق”[22]. و يعمل النظام الاجتماعي القائم و المتمركز حول الذكورة على التشديد دائما على الفروق و على الفصل الدائم بين الرجال و النساء في ثنائية من المتقابلات. و يتتبع بورديو الكثير من الطقوس لدى المجتمعات البدائية و كذلك المتحضرة ليكشف عن كون العلاقات بين الجنسين تقوم على رؤية ذكورية يعمد المجتمع دائما على استحضارها من خلال الاحتفالات و الطقوس ، فعلى سبيل المثال: “تصرفات الاجتناب المفروضة على النساء باستبعادهن عن الأمكنة الذكورية”[23]. إن وظيفة الطقوس هي إظهار أن البناء الاجتماعي للأجساد هو بناء طبيعي ، فالنظام الذكوري المهيمن و المؤبد يعمل على جعل الخصائص الفيزيائية و الاجتماعية خصائص طبيعية و ذلك من أجل الاعتماد على النظرة الكونية عن الذكورة كمقولة مسلم بها لدى الجميع. في حين أن هذه الكونية و هذه الاستمرارية ما هي إلا نتاج لتأبيد علاقات الهيمنة و تبريرها من طرف النظام الذكوري ، وكذلك عن طريق التأبيد الاجتماعي تُصبح النساء مقتنعات بفضل السلطة التنويمية للهيمنة أن إحتلالهن قاع التدرج الاجتماعي هو أمر طبيعي كوني عائد إلى خصائصهن البيولوجية التي يقوم عليها تقسيم العمل في حين أن تقسيم العمل لا يتأسس من خلال الفروق البيولوجية بل من خلال الوظيفة الاجتماعية.

فدراسات مارغريت ميد والعديد من الانتروبولوجيين الآخرين دلت على أنه لو كان تقسيم العمل تقسيم كوني عائد إلى الفروق البيولوجية ، حيث يهتم الرجال بالأعمال الصعبة و المهمة و النساء بالأعمال السهلة و التافهة ، لما كان هناك اختلاف في تبدل الأدوار في تقسيم العمل من المجتمعات التي قام هؤلاء الانتروبولوجيين بدراستها ( حيث تحتل النساء مراكز السلطة و تمارسن الأعمال الصعبة و المهمة و يحتل الرجال قاع التدرج الاجتماعي و يمارسون الأعمال التافهة ، و العكس بحسب اختلاف المجتمعات).

إن النساء بفضل العمل التأبيدي لعلاقات الهيمنة اعتبرن أن وضعيتهن هي وضعية طبيعية تماما، و يعود ذلك إلى أن التقسيمات الاجتماعية للعلاقة بين الجنسين ” تستبعد النساء عن المهمات الأكثر نبلا ( قيادة المحراث مثلا) ، و تخصص لهن أماكن سفلية (الممر الجانبي للطريق أو الحدر)، وتعلم كيفية التعاطي مع أجسادهن (أي على سبيل المثال ، منحنيات ، و ذراعان مطويتان إلى الصدر أمام الرجال المحترمين) ، و تخصصهم لمهمات مضنية ووضعية و حقيرة ( نقل سماد الأنعام، و هن اللواتي يلتقطن الزيتون مع الأطفال أثناء القطاف ، في ما الرجال يستعملون مضرب القطاف).”[24]

تجبر النساء في ظل هذا الإقصاء الاجتماعي على تطبيع حركات أجسادهن، أي جعلها تتحرك بدينامية ثابتة حيث أنه لكل موقف اجتماعي خاص حركات خاصة ينبغي على المرأة أن تستحضرها على الدوام. فالمرأة يجب عليها ألا تنظر إلى أعلى في حضرة الرجال و يجب عليها إبقاء ساقيها مضمومتين و أن لا تظهر جسدها إلا في صورة مقوسة و منحنية في حين أن الرجال ينظرون إلى الأعالي و يتموضعون تموضعات تدل على الاعتزاز و السير بقامة مستقيمة، و يتم تأبيد هذه العلاقات عن طريق أساليب تنشئة من أهمها التربية الأسرية التي تسعى إلى ” تلقين أساليب إمساك الجسد في مجمله، أو هذه أو تلك من أجزاءه : اليد اليمنى ذكورية أو اليد اليسرى أنثوية و أساليب السير و حمل الرأس ، أو النظر في العيون مواجهة أو على العكس النظر إلى القدمين…الخ”[25]

يذهب بورديو كذلك إلى أن الهيمنة الذكورية تحمل في الهابيتوسات المختلفة ، فهابيتوس الرجل مثلا يتضمن أنه على الفرد المذكر ألا يدخل مع النساء إلا في علاقة هيمنة يبرهن من خلالها على تميزه بخصال النبل و الشهامة.

الهوامش:

[1]– بيير بورديو : ما هو الحقل – فكر و نقد

[2]ـ مجلة إضافات ، العدد الثامن  ، ص 16 ، مرجع سابق

[3]ـ نفس المرجع السابق ، ص16

[4]– مجلة إضافات ، العدد الثامن  ، ص 18 ، مرجع سابق

[5]– يوسف ادريسي ، آليات تحليل الخطاب الأدبي –فكر و نقد.

[6]– بيير بورديو ، الخياطة الرفيعة.

 [7]بيير بورديو ، الهيمنة الذكورية  ، ترجمة د سلمان قعفراني ، ص 8 ، المنظمة العربية للترجمة ، الطبعة الأولى ابريل 2009 ، بيروت ، لبنان

[8]– بيير بورديو ، الهيمنة الذكورية  ، ص 11، مرجع سابق

[9] ـ نفس المرجع السابق ص 12

[10] – نفس المرجع ص 12

[11]   نفس المرجع ص 12

[12] – نفس المرجع ص 12

[13] – نفس المرجع  ص 13

[14]ـ  نفس المرجع ص32

[15]– نفس المرجع ص 32

 [16]ـ   نفس المرجع ص 33

[17]  ـ نفس المرجع ص 33

[18]– نفس المرجع ص 34

[19]– نفس المرجع ص  34

[20]– نفس المرجع ص 39

[21] ـ نفس المرجع ص 39

[22]– نفس المرجع ص 45-46

[23] ـ نفس المرجع ص 47.

[24] ـ نفس المرجع ص47.

[25]ـ نفس المرجع ص 52.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.