أنثروبولوجيا الاستعمار 1\2

تقديم:
مثلما تدل على ذلك شتى أصناف الأدلة التاريخية، فالفعل الإستعماري قديم قدم التجمعات البشرية، وحرب طروادة مثلا (1250–1184 ق.م) لا تروي في جوهرها سوى مسيرة إلتقاء الآخيين Achéens، بزعامة أغاممنون Agamemnon، بالشعوب الآسيوية، ومن ثمة فكلمة “إستعمار” لم تكن قد حُمِّلت بالمعاني التي صارت تنطوي عليها الآن، فإذا أخذنا مثلا لفظ Colon، المشتق من أصل لاتيني، فإننا نجده يعني في فرنسية القرن الرابع عشر: المزارع الذي يفلح أرضا لقاء أجر عيني، وسوف يتطور معنى هذا اللفظ ليعني في القرن الثامن عشر: كل من يؤسس أو يُعمِّر أرضا خارج وطنه. أما التحرر فبالرغم كونه مصطلحا حديثا ويعود في ظهوره إلى فترة الحرب العالمية الأولى، إلا أنه كسيرورة إنعتاق الشعوب المستعمرة من سلطة وهيمنة القوى المستعمرة لبلدانها قديم قدم الإستعمار، غير أنه يبدأ في العصر الحديث باستقلال مستوطني الولايات المتحدة الأمريكية عن بريطانيا عام 1776. وقد تحول التحرر إلى ظاهرة مرتبطة بالفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية وبتنامي الوعي الوطني لدى الشعوب المستعمرة. ولأن الكثير من الشعوب لا تزال ترزح تحت نير الإستعمار (الشعبين الفلسطيني والصحراوي مثلا)، فإنه لا يمكننا وضح حد لتاريخ ظاهرة التحرر هذه.إن إلقاء نظرة سريعة على تاريخ الإغريق القديم لتكشف لنا عن الأصل “الطبيعي” لمعنى هذا اللفظ، ذلك أن شعب اليونان، الذي نشأ من تدفق شعوب كثيرة على البلاد التي سوف تحمل إسم بلادهم (اليونان)، سوف يقدم لنا العناصر الأولى التي تسمح لنا بشرح معنى كلمة إستعمار بداية من الألف الثانية قبل الميلاد، ومن بين تلك العناصر: الهجرة، الهروب تحت ضغط هجرات جديدة، البحث عن أراضي جديدة … الخ.
لا يعني ما سلف أن الإستعمار قد إتخذ في البداية معنى إيجابيا، فباستثناء تعمير المناطق غير المأهولة، ستُرافق الفعل الإستعماري ردود أفعال شتى، كالإستهجان والتنديد والإستنكار والمعاداة الصريحة، ومن طرفي العلاقة الإستعمارية، أي ردود فعل المناطق المستعمرة وكذا ردود أفعال بعض الأطراف في المجتمع الإستعماري نفسه، ومن جهة أخرى سترافق كل عملية إستعمارية أفكار تبررها بما في ذلك المبررات التي تنشأ داخل المستعمرة وسط أبنائها أنفسهم.

تعريف الإستعمار
بدأ الحديث عن الإستعمار Colonisation بمعناه الحديث إبان القرن السابع عشر ليَدُلَّ في الآن نفسه على فعل الإستعمار وعلى نتيجته، وحسب جاك بارك وشارل أندري جوليان وغيرهما فإن: “الاستعمار حركة توسع تاريخية للحضارة الصناعية، نبعث من بعض الأوطان، المحددة تاريخيا وجغرافيا، بداية من القرن التاسع عشر؛ والتخلص من الاستعمار هو الحالة التي ينتقل خلالها أكبر قدر من المبادرات إلى الأوطان المتلقية وتجنح في خضمها الحضارة الصناعية (وكذا عدد من أنماط التفكير والقيم السائدة فيها) إلى العولمة”
من الإستعمار كفعل أُشتقت الكثير من المفاهيم في اللغة الفرنسية مثل:
– الإستعمار Colonialisme: مصطلح بدأ الحديث عنه في القرن العشرين ويعني أساسا مبررات الاستعمار؛
– Colonisation: فعل الإستعمار ونتيجته؛
– Anticolonialisme: الموقف المعارض للإستعمار؛
– Coloniste: ظهر هذا المصطلح إبان فترة تردد الفرنسيين بشأن الإستمرار في إحتلال عموم الجزائر أو تركها لأهلها (1833 – 1834)، ويعني أنصار فكرة الإبقاء على الجزائر مستعمرة فرنسية؛
– néo-colonialisme: مصطلح ظهر في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين ويعني جملة الطرق التي تُبقي بواسطتها الدول الإستعمارية على الدول المتحررة لتوها تابعة لها إقتصاديا.

تاريخ الإستعمار
يوفر لنا تاريخ الكريتيين والفينيقيين والإغريق والرومان، بصفة خاصة، معطيات هامة لدراسة تاريخ الإستعمار لدى شعوب الحضارات القديمة في حوضي المتوسط والبحر الأسود مثلا. وقد تجسد ذلك الإستعمار في إنشاء مكاتب تجارية ومحطات تموين ومدن ومستعمرات عسكرية وزراعية (المكاتب العسكرية التي أنشأتها أثينا ومنحت فيها قطعا أرضية cleros لفقرائها، مما أوجد نظام الكليروكيات مثلا) … الخ. وقد عرف الحوضان، السالف ذكرهما، تنافسا حادا بين الكريتيين والفينيقيين والإغريق والرومان وامتزجت التجارة والقرصنة بالنشاط الإستعماري، فمثلا تمكن الكريتيون من إبعاد الفينيقيين من بحري إيجة وقزوين خلال الألف الثانية قبل الميلاد، كما أدى تأسيس الثيريين (مستوطنو Théra)، الذين قدموا من بلاد السيكلاد Cyclades، لقورينا Cyrène، في ليبيا الحالية، إلى وضع حد لإمكانية توسع الفينيقيين- البونيقيين نحو الشرق. وقد بلغ التنافس الإستعماري في القديم أشده بين الرومان والقرطاجيين، حيث إصطدم الطرفان في حربين عنيفتين: بدأت الأولى عام 241 ق.م وانتهت بانتصار روما بعد 23 سنة من الحرب التي كانت صقيلية ميدانها الرئيسي. وفي 218 ق.م. إصطدمت روما مرة أخرى بقرطاج على الأراضي الإسبانية، وكان النصر حليفا للقائد القرطاجي هانيبال وخاصة في معركة كان Canne. وبعد مرور 18 سنة من المعارك، تمكن الرومان من سحق الجيوش القرطاجية في معركة زاما عام 202 ق.م، وسوف تستمر تلك المعارك إلى غاية سقوط قرطاج عام 149 ق.م.
مثال عن الإستعمار
s، صاموس Samos، فوصيا Phocée، تيوص Téos وغيرها. الإغريقي في القديم
تميزت حركة توسع الإغريق في بدايتها بطابع كونها حركة هجرة وإستيطان سكانية. فقد هاجر الأيوليون ثم الأيونيون والدوريون واستوطنوا الشواطئ الغربية لآسيا الصغرى، وقبل احتلال الدوريين للبيلوبونيز، أسس الأيوليون عام 1124 ق.م أول مستعمرة لهم في ميزي Mysée، شمال غرب آسيا الصغرى. وفي 1044 ق.م استوطن الأيونيون المناطق الواقعة بين هرموس Hermos ومياندر Méandre وأسسوا مدن: ميلي Milet، كيوص Chio
في 1049 وصلت الهجرة الدورية إلى رودس Rhodes وكوص Cos وكريت وميلوص Mélos وكل الساحل الجنوب الغربي لآسيا الصغرى، أي إلى المنطقة التي سيطلق عليها الدوريون تسمية دوريد Doride.
بين منتصف القرن الثامن ومنتصف القرن السابع ق.م، عرف الاستيطان الإغريقي مرحلة جديدة تسببت فيها الأوضاع الاجتماعية لجزء كبير من السكان، نتيجة لنقص الأراضي واستيلاء العائلات الكبيرة على الجزء الخصب منها، ولذلك سوف يتخذ الاستعمار الإغريقي في هذه الفترة طابع الاستيطان الزراعي في آسيا الصغرى وسواحل البحر الأسود، قبل أن يضحى تجاريا نتيجة نمو تجمعات المزارعين وتحولها إلى مراكز حرفية ومخازن لشتى المنتجات، ومن جهة أخرى اتجهت الحركة الاستيطانية، في نهاية الفترة، نحو الحوض الغربي للمتوسط وتركزت بصفة خاصة في جنوب إيطاليا وصقلية، المنطقة التي صارت تعرف باسم اليونان الكبرى، وتدريجيا أصبح البحث عن المواد الأولية وممارسة التجارة ثم النية في مراقبة الطرق التجارية، أهم أسباب التوسع الإغريقي.
رغم أن كلمة متروبوليسMetropolis (المدينة الأم) يونانية الأصل، إلا أن حقيقة العلاقات القائمة بين المستعمرات ومدنها من جهة والمدن الأصلية التي قدم منها المستعمرون من جهة ثانية، لم تكن تنم عن وجود سياسة إستعمارية رسمية، ومن ثمة فالمستعمرات لم تكن تمثل توسعا للمدن الأصلية، لقد كانت المستعمرات مستقلة عن الوطن الأم ولا ترتبط معها سوى بروابط ثقافية ودينية وتجارية.

أوائل الإمبراطوريات الإستعمارية خلال القرنين السادس عشر والثامن عشر:
إجتمعت جملة عوامل وأسباب، في نهاية العصور الوسطى، لتعطي الفعل الإستعماري معاني جديدة كالهيمنة والإستغلال، مما سيجعل من الإستعمار إحدى الدعائم الأساسية لسياسات الكثير من الدول الأوروبية.

تندرج العوامل المشار إليها أعلاه، ضمن التحولات الكبيرة التي عرفتها المجتمعات الأوروبية وخاصة الغربية منها، في نهاية العصور الوسطى، والتي يمكن إيجازها في:
– تفسخ النظام الإقطاعي وإزدياد قوة الدول ومن ثمة نفقاتها؛
– تطور قوي الإنتاج وميلاد الحاجة إلى المعادن الثمينة، بعدما إستنفذت معظم مناجم أوروبا،
– سيطرة الأتراك على مصر وغلقهم لتجارة المتوسط مما سيضطر الأوروبيين إلى البحث عن طريق آخر للوصول إلى مصادر التوابل، التي إزداد الطلب عليها بفعل تطور التعودات الغذائية، التي أفرزتها النهضة؛
– تطور علوم وفنون ركوب البحر (الخرائط، البوصلة، بناء السفن، تنظيم الرحلات الكبيرة…الخ)، مما سيساعد على بداية عصر الكشوفات الجغرافية الكبيرة (إكتشاف كريستوف كولومب Christophe Colomb للعالم الجديد عام 1492 وفاسكو دو غاما Vasco de Gama للطريق البحري المؤدي إلى آسيا عبر جنوب إفريقيا عام 1498 …الخ). وهكذا، وباكتشافهم للطريق البحري المؤدي إلى آسيا وكذا للعالم الجديد، سيكشف الأوروبيون عن نواياهم في نهب خيرات القارات الأخرى، وذلك ما سيؤدي إلى ظهور أولى إمبراطوريتين إستعماريتين في الفترة الحديثة: البرتغال وإسبانيا.
أ- الإمبراطورية البرتغالية:
كان البرتغاليون سباقين في إرساء أسس إمبراطورية إستعمارية إبان الثلث الأول من القرن السادس عشر، وقد عرفت تلك الإمبراطورية تنظيما واضحا، حيث حكموا مناطق واسعة في آسيا بين 1505ـ1515 بواسطة نائبي الملك: المايدة Almeida وألبوكيرك Albuquerque. فما أن فرغوا، بمعية الأسبان، من ملاحقة المسلمين الفارين من الأندلس إلى شمال إفريقيا، حتى إستولوا على معظم جزر المحيط الأطلسي واكتشفوا غينيا وأنغولا ورأس الرجاء الصالح وسيطروا على باب المندب ومضيق هرمز، واتجهوا صوب الهند وجاوة وماكاو واليابان. وقد تمكن البرتغاليون تدريجيا من إقامة تجارة نشطة بين أوربا وآسيا، ومن التحكم في تجارة التوابل بصفة خاصة؛ غير أن عدم توغلهم في الأراضي التي اكتشفوها وأسسوا فيها مكاتب تجارية، ومن ثمة عدم استيطانهم فيها، سيؤدي ببعض الأمم الأوربية الأخرى، كإسبانيا وهولندا، إلى مزاحمتهم في السيطرة على تلك المناطق، كما سيؤدي احتلال الإسبان لبلادهم بين 1580ـ1640 إلى انهيار إمبراطوريتهم. لاحقا سوف يركز البرتغاليون اهتمامهم على البرازيل (التي إكتشفها كابرال Gonçalo Velho Cabral عام 1500) وعلى مستعمراتهم الإفريقية.

ب- الإمبراطورية الإسبانية:
في أقل من قرن تمكن الإسبان من إنشاء إمبراطورية إستعمارية مترامية الأطراف تشمل أجزاء واسعة من العالم الجديد إلى جانب الفيليبين، التي إحتلوها عام 1570، وجزر ماريان وكارولينا وبعض المدن الساحلية في شمال إفريقيا كوهران عام 1509 وطرابلس عام 1510 وتونس في 1535.
وفي العالم الجديد ـ الذي اكتشفه كريستوف كولمبس عام 1492 وأكد أميريغو فوزبوتشي Amerigo Vespucci عمليا أنه اكتشف قارة جديدة وليس الهند مثلما كان الإعتقاد سائدا وقتذاك ـ إكتشف الإسبان وإحتلوا مناطق واسعة، بين 1518ـ1561، في المكسيك وأمريكا الوسطى والبيرو والشيلي وغيرها.
نقل الإسبان نظام بلادهم الإداري إلى مستعمراتهم وحكموها بنواب الملك وأخذوا يحدثون فيها تنمية تعود عليهم وحدهم بالفائدة. فعلى كاهل الهنود الحمر إستخرجت المعادن الثمينة ومنها الفضة، التي كان منجمها في بوطوزي Potosi، المكتشف عام 1545 يعطي إسبانيا سنويا 300 طن من ، وعلى كاهل الزنوج الأفارقة أدخلت الكثير من المزروعات الجديدة إلى*الفضة المستعمرات الإسبانية في القارة الجديدة، كما إستعمل هؤلاء وأولئك في تربية المواشي وفي أعمال كثيرة أخرى وفق نظام السخرة اللا إنساني.
لقد لعب الإسبان دورا كبيرا في نشأة ثقافة أمريكا اللاتينية، غير أن ذلك لم يتحقق سوى بعد تخريب فرانشيسكو بيزارو Francisco Pizarro González لحضارة الإنكا، وإستغلال الهنود الحمر في نظام الإنكوميوندا Encomienda الإقطاعي، الذي تسبب في زوال نصف سكان المنطقة خلال قرن واحد، وأيضا الأفارقة الذي سيقوا بالآلاف إلى العالم الجديد للغرض ذاته مما تسبب في تخلف القارة السمراء**.

نحو الصبغة القانونية للإستعمار
منذ بدايتها، بدت حمى المنافسة أنها ستكون طابعا مميزا لمعظم حملات الكشوفات الجغرافية وأولى العمليات “الإستعمارية”، ولذلك سوف تصطدم مصالح ونوايا الإسبان والبرتغاليين في ما بينها إلى أن يتدخل البابا الإسكندر السادس Alexandre VI ويصدر قرارا تحكيميا بين البرتغال وإسبانيا، بتاريخ 3/5/1493، يقرر فيه بأن الأراضي المكتشفة والواقعة على بعد 100 فرسخ غرب خط الطول، المار عبر الساحل الأخضر، ستؤول للإسبان وأن الأراضي الواقعة شرق ذلك ستكون من نصيب البرتغاليين. وفي 2/7/1494 وقع كل من فرديناند الثاني Ferdinand II، ملك أراغونة، وإيزابيلا الأولى، ملكة قشتالة، اتفاقية توردصيلاص Tordesillas، التي توسع نطاق ممتلكات البلدين عن طريق زيادة بُعْد خط الطول عن الساحل الأخضر بـ 370 فرسخا، مما أعطى البرتغاليين الجهة الغربية التي تقع فيها البرازيل. وفي 22/04/1529، وبعد إتمام ماجلان Fernand de Magellan (1480-1521) لرحلته عبر العالم، جرى توقيع إتفاقية سراغوسة Saragosse التي تمد نفوذ الدولتين في شرق خط الطول، المشار إليه، حيث أُعتبر أرخبيل الملوك Moluques نقطة فاصلة تقع الممتلكات البرتغالية غربها على بعد 297,5 فرسخا، ليتم بذلك التعرف على كل الأراضي الواقعة شرق خط الطول.
وهكذا أدت هذه الإتفاقيات إلى منح البرتغال وإسبانيا لنفسيها حق تقسيم العالم مما سيفتح شهية المنافسة أمام الإمبراطوريات الإستعمارية الناشئة الأخرى كفرنسا وإنجلترا وهولندا.
لقد كان قرار التحكيم ـ الذي أصدره البابا عام 1493، مباشرة عقب إكتشاف العالم الجديد عام 1492 ـ بمثابة بداية لواحدة من أكثر ظواهر التاريخ البشري عالمية: الإستعمار؛ وكذا بمثابة أرضية ، وفضلا عن ذلك،*لاتفاقيات مماثلة سيعرفها العالم إلى غاية القرن العشرين سوف تجد مثل مظاهر التنافس تلك تعبيرها في نظام الإستعمار بواسطة الشركات Compagnie à Charte (سيلي الحديث عن هذا النوع من الإستعمار)، الذي نجم عن عجز الإمبراطوريات الإستعمارية الأولى، مطلع العصر الحديث، عن تحمل نفقات التسيير الإداري المباشر لمستعمراتها، التي لم تكن تجلب منها سوى جزء من إجمالي مداخيلها، فضلا عن تخلف النظم الإقتصادية التي أرسيت في المستعمرات: فمثلا لم يكن النظام الإقتصادي الذي أحدثه الإسبان في مستعمراتهم في العالم الجديد، إلى نهاية القرن السادس عشر، يختلف كثيرا عن إقطاعية إسبانيا نفسها.
على كل، ومثلما يكشف لنا عنه تتبع تاريخ الإستعمار، فإن الغرض الذي تحدث عنه البابا الإسكندر السادس Alexandre VI، في وثيقة “تقسيم العالم” بين البرتغاليين والإسبان عام 1493*، لم يكن سوى تعبيرا عن دافع مطابق لروح عصر الكشوفات الجغرافية، مثلما ستطابق دوافع الإستعمار الأخرى طابع كل فترة لاحقة إلى أن يتحدث دافيد ليفينغستون (1813–1873) David Livingstone باقتناع على أن “المسيحية والتجارة والحضارة** ستحرر إفريقيا من العبودية والبربرية”، وكل ذلك قبل إكتشاف القرن العشرين، وخاصة الإشتراكيين، بأن توسعات الأوروبيين في العالم ليست سوى وسائل لخدمة الرأسمالية.
على ماذا يدل ما سلف؟ إنه يدل ببساطة على أن الفعل الإستعماري يسبق دائما الأفكار الإستعمارية (التي يسمى أصحابها بأنصار الإستعمار Coloniaux)، التي تضفي عليه الشرعية وكذا الأفكار المنددة أو الرافضة أو المناهضة له.
أ – تطور الأفكار المبررة للإستعمار:
وجد الفعل الإستعماري الكثير من الشخصيات السياسية والدينية والثقافية … الخ، التي تبحث له عن شتى المبررات: فخوان دو سيبولفيدا (1490– 1573) Juan Ginés de sepulvida مثلا كان يرى في الهيمنة الإستعمارية واجبا وفي الحرب المعلنة على الهنود الحمر حربا عادلة*** خاصة وأن هؤلاء وثنيين ومشعوذين ويقربون البشر للآلهة. وقد أعطى خوان دو سيبولفيدا برأيه هذا، مبررا شرعيا للحرب التي صارت وسيلة رجال الدين المسيحيين المفضلة، إلى جانب ممارسات الإنكوميوندا encomienda الأخرى، في إستعباد الهنود الحمر وإرغامهم على إعتناق المسيحية.
مع مطلع سبعينات القرن التاسع عشر حدث تحول نوعي في السياسات الإستعمارية وبدأ الحديث عن الإستعمار التوسعي Colonialisme expansionniste والإمبريالي، الذي وجد بدوره مناصرين كثيرين من كتاب ورجال صحافة وسياسة، كما ظهرت جمعيات مساندة له مثل: لجنة إفريقيا الفرنسية، *المعهد الاستعماري الملكي (البريطاني)، الجمعية الألمانية للاستعمار وغيرها، وقد قُدمت الكثير من المبررات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية إلى أن تجرأ جول فيري Jules Ferry على الحديث صراحة، في خطابه أمام النواب الفرنسيين في 28/7/1885، على أن “الأمم ليست كبيرة سوى بنشاطها، لأن البروز بدون أي تأثير أو إهتمام بشؤون العالم (…) هو تراجع وإنحدار من المرتبة الأولى إلى الثانية أو الرابعة (…).
إن للأعراق المتفوقة حق على الأعراق الدنيا (…) لأن عليها واجب: واجب تحضير الأعراق الدنيا” .
لن يكف الأوربيون عن تقديم مثل هذه المبررات وسوف يتحدث المؤرخ راؤول جيراردي عن أن “الغرب يمثل الأنوار في مواجهة الظلمات” ، وسوف يصوِّت البرلمان الفرنسي في فيفري 2005 على نص يتحدث عن محاسن الإستعمار.
ب – تطور الأفكار المعادية للإستعمار:
وجدت جميع أشكال الهيمنة والإستغلال، المرتبطة بالإستعمار، معارضين ومنددين من جميع الفئات، فقد عارض مثلا كل من لاس كازاس Las Casas (1474–1566) وفرانشيسكو دو فيتوريا Francisco de Vitoria (1492–1549) أفكار أمثال خوان دو سيبولفيدا وَوَقَفَا ضد الإنكوميوندا.
وقد إهتم الأدب الإنساني بالممارسات الاستعمارية ضد شعوب العالم، ففي الفصل المعنون: “آكلات لحوم البشر”، قارن مونتان Montaigne بين الهنود الحمر والبرتغاليين بالكيفية التي تجعل قارئة ينتهي إلى التساؤل عما إذا لم يكن البرتغاليون هم البرابرة الحقيقيون .
وبقوله: “لا أجد في هذه الأمة ما يدل على بربريتها ووحشيتها”، قبل أن ينتهي إلى أن “كل واحد يصف ما لم يألفه بالبربرية”، يكون قد كشف عن نسبية الأمور، بل لقد اعتبر نفسه من الهنود الحمر وعَرَّى الإسبان والبرتغاليين من مجدهم الزائف مذكرا إياهم بأنه لا شرف في قتل شعبٍ (الهنود الحمر) أعزل وعاري، بالبنادق والمدافع.
ولم يختلف عنه فرانسوا رابلي (1553–1483) François Rabelais، حيث رأى في الشعوب المستعمرة نباتات غُرست لتُوِّها ومولودين جددا تجب رعايتهم، وإنتهى الإثنان إلى الحلم باستعمار إنساني يُصلح الجانب البربري في الإنسان ويحرره.
ويمكننا أن نستشف أقوالا كثيرة في هذا السياق لدى الأب راينال Abbe Raynal (1713–1797)، الذي عارض إحتلال الأراضي المأهولة، أو لدى بنتام Jeremy Bentham (1748–1832) ونيكر Jacques Necker (1732–1804) اللذين دعيا إلى إلغاء تجارة الرقيق … الخ. وفي 1791، فوَّضّ المجلس التأسيسي، للثورة الفرنسية، للمجالس الاستعمارية أمر توسيع دائرة التمتع بحقوق الإنسان لتشمل أهالي المستعمرات الفرنسية، فكان ذلك بمثابة أرضية مبكرة لسياسة الإدماج وخطوة عملية تجسد صيحة المحامي روبسبيار M. de Robespierre (1758–1794) حين قال: “فلتسقط المستعمرات !'”.
من جهتهم، ورغم الدور الكبير الذي لعبوه في استعمار أوروبا للكثير من مناطق العالم، أخذ رجال الدين المسيحيين يتراجعون بحذر عن مواقفهم السابقة بغرض تحقيق أهداف مرتبطة أساسا بمكانتهم في المجتمعات الغربية (التي أخذت تهتز بسبب توجه تلك المجتمعات نحو فصل الكنيسة عن الدولة) وفي العالم. فقد وقف الكاثوليك في فرنسا مثلا ضد سياسة جول فيري الإستعمارية بهدف إفشال سياسته التعليمية، ومع تطور حركات التحرر في العالم المستعمر عقب الحرب العالمية الثانية، بدأت الكنائس الأوروبية في الدول الإستعمارية، تميز بين مجالها الخاص ومجال القوى الإستعمارية، وعملت على إنشاء إكليروسات محلية في المستعمرات وتعيين أساقفة من أهاليها.

…. يتبع

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.