أزمة المفكرين – مقاربة موجزة

truth

لأزمة المفكرين عناصر متعددة ، أولها وأخطرها وأصعبها وأدقها هو القدرة على التوصيف ! وثانيها هو جدولة الحلول زمنياً – بعد الإتفاق حول الأولويات وتدرّجها – وأصل الأزمة هو في غياب القيادة .

الأول إذن ، هو القدرة على التوصيف السليم للمشكلة ! وهذه غير متوفرة للجميع – على عكس ما يظن البعض أنها سهلة وممكنة وكل الناس قادرين عليها !

هي الأدق ، والأصعب ، لأن التوصيف (وبالتالي الفهم) الخاطئ ، سيؤدي إلى إبتكار حلول إغترابية ! تؤدي إلى تفاقم المشكلة .

ولهذا يتم تجهيل مهارة التوصيف السليم أو تهميشها أو خمصها حقها (عند الشعوب المستعمَرة) ، على أساس أن كل من لديه بصر بقادر عليها !!

وهذا مَكمن الضياع ، لا بل الإنحراف على إجتراح أي حل !

باللغة الطبية ، التشخيص السليم يقدم الشروط الأساسية لشفاء المريض ! والتشخيص الخاطئ يقتل المريض !

لذا يستعين الأطباء بالتحاليل المخبرية وصور الأشعة و… لتأكيد تشخيصهم أو نفيه ! هذا مع توفر عوامل معدودة يمكن لها أن تسبّب المرض ، ويمكن للطبيب أن يتحكم بها !

فكيف الحال بواقع المجتمع (وعوامله غير المعدودة) ؟!

يتعلّم الطبيب سنوات سبع ، قبل أن يبدأ تخصصه ، لكي يطمئن المريض لمهارته ، فيلتزم معه بما يطلبه منه لكي يشفى !

بينما يلتبس الأمر على بعض “المفكرين” فيعتبرون التوصيف مجرد تجميعٍ لمعطيات ، يمكن لأيٍ كان أن يفعله ! وقدرة الباحث تتجلى واضحة في قدرته التحليلية ! وهم يقصدون بها قدرته على إلباس معطياته لباساً مستورداً – من فرنسا غالباَ – فهي من تخترع الموضة ! والعلم أضحى (لهم) مجرد موضة !

هذا اللباس (النظرية) هو السائد اليوم ، فنعتمده في تحليل كل شيء !

وما الذي تقوله المعطيات ؟! ما الذي يدور في المجتمع حقاً ؟!

لا يعرف هؤلاء «المفبركين» ! ولا يريدون أن يعرفوا !! ويمتنعون عن الإنطلاق نحوه دون أن يملأوا كأسهم أولاً بكل ترهات الموضات المستوردة !

وهل يقدر من إمتلأ كأسه على ملئه ؟!

أفرغ كأسك يا هذا ، وانظر … سترى الوقائع كما هي .

لكنه يرفض ، ويزهو بغروره ، فهو قرأ عن الموضة ، وسيكون لعارضاته ذات الشكل المورفولوجي ، ومهما إختلف اللباس ، فالنتيجة واحدة !

ينطلق مزوداً بالعدّة الخاطئة ، فيوصّف ما يراه بعين عدّته لا بعين الواقع ، ويقوم بذلك إما جاهلاً أو متعمداً ، وبالحالتين ، يبقى المرض معشّشاً في حنايانا !

هذه أزمته الأولى : أنه لا يوصّف ولا يريد أن يوصّف المشكلة – كما هي – بموضوعية ! ويتجاهل أن الموضوعية هي هنا فقط ! التجرد هو هنا ! الحيادية لا يمكن أن تتجلى إلا هنا ! وهذه هي قدرة الباحث الحقيقية !

بينما التحليل يخضع للذات ! ومع كل اللبوس النظري الذي يتحول إلى إلباس وإلتباس ! أما ما تراه ، فهو هناك لغيرك أيضاً ويمكنه أن يراه ! وهذا ما نفتقده !

كثيراً ما أقرأ أوراقاً بحثية ، تختصر في التوصيف ، وهو بجلّه مشوِّه للواقع ، لأنه مخلوط بالقدرة التحليلية !

عندما يحاول باحث أن يشرح لنا مظاهر عيد الأضحى (مثلاً) ، لا يقدّم لنا معطيات لما يجري (أو يمر عليها سريعاً) ، وتراه يتوسع بشرح الأبعاد والأصول – بمعنى آخر : يلتزم بتشريح نوايا الفاعلين الإجتماعيين – ثم يُلبس أفعالهم ألبسة لا يرونها ، ولا يفعلونها لأجلها (وكله فدى للنظرية التي إستوردها من العالِم الغربي الفلاني أو العلاني)!

بينما كان يجدر به أن ينظر في المعطيات التي أمامه ، فينقلها بموضوعية ، ومن ثم يسأل الفاعلين عن نظرتهم لها ، أفكارهم حولها ! وبعدها يقارن مع ثقافته (إن كان دخيلاً) – دون تحامل – أو يقدّم بعداً ذاتياً (عبر الإثنوغرافيا الذاتية) إن كان أصيلاً ! ومن ثم ينظرها بعين أوسع شمولية (عبر التاريخ وعبر الجغرافيا) ، وكله ليقدّم لنا معنى وفهماً لحياة الفاعلين – كما لحياته (إن كان من ثقافة مختلفة) – ، دون أن يسقط في هاوية أن يخترع أجساداً “غير موجودة” لألبسته المصنّعة الجاهزة ! أو أن يعمل على إيجادها عبر تغيير الوعي عما هو جميل في ثقافة ما تجاه ما هو جميل في “ثقافته” !

أزمة المفكرين الثانية ، أن من قدر على التوصيف السليم ، لم يحدّد حلولاً واضحة ، لم يحدّد أهدافاً قصيرة الأجل وبعيدته مع جدول زمني متدرّج لتحقيقها ! لم يضع خطة عمل للشفاء من المرض !

لماذا ؟!

لأنه وصف بشكل سليم ، فهل يعني هذا أنه تحرّر بجزء كبير من سيطرة عقدة التقعّر/التحدّب ؟ العقدة التي تعمل على تحديد رؤيته لذاته الجماعية عبر مرآة مقعّرة ، ورؤيته “للرجل الأبيض” عبر مرآة محدّبة !

يبدو ذلك … فالقادة الكبار ، بعد توصيفهم (تشخيصهم) لأزمة المجتمع ، أكدوا ذلك عبر إجتراح حلول واضحة ومحدّدة !

هنا التشبيه الأمثل هو الأستاذ ! – كما الطبيب كان المثال الأفضل لتأكيد أهمية التوصيف – .

المفترض أن هناك خطة عامة تحدّدها الدولة عبر وزارة التربية (عشرية و/أو خمسية ، وسنوية) ! والمفترض أن هناك خطة تقرّها المدرسة ! ثم هناك خطة للمقرّر (للصفوف كافة) … وهناك توزيع سنوي (للصف) … بعدها خطة للمحور … وللدرس .. وأخيراً خطة لكل حصة !!

وفي كل خطة ، هناك أهداف عامة ومحدّدة ، بعيدة المدى (على مدى سنوات) ، وقصيرته (على مدى حصة واحدة) …

وكله (من الصغير للكبير) يتراكم لخدمة الخطة العامة/السؤال الأساسي : أي طلاب لأي عصر ؟!

الآن …

يأتي المفكر المأزوم ، فيستغرق في التفاصيل على حساب الرؤية الشاملة والعامة ! ويقوم بإستقراء جزيئات مشوهة فيبني عليها تعميمات مبعثرة ! كما يخلط في الرؤية بين ما هو أســـاســـي وما هو ثانوي ، ما هو ميكروي وما هو ماكروي ! وهذا كله مترتب على ضعفه في التوصيف الذي يرتكز على براديغم يهمّشه (أي التوصيف) لصالح “فبركات تحليلية” حول النوايا والأصول !

إن إفتقار المفكر لفلسفة حياتية قادرة على الصمود في وجه العواصف العاتية التي يعيشها ، يؤدي به إلى حالة العقدة (السالفة الذكر) ! فينبهر بكل منجزات الغرب (دون أن يعايشه حقاً ، بل تبنّى صورته المحدّبة إنطلاقاً من توصيف مجتزأ ومشوّه إنبنى عليه لاحقاً تعميم خاطئ حول غرب وهمي وموهوم) ويحقّر (عبر الصورة المقعّرة) كل تاريخ الذات الجماعية !

هذه العقدة ، هي وسيلة إستخدمها المستعمِر ليتمكن من الإستمرار في إحتلاله ونهبه للشعوب المستعمَرة ، وبنى من خلالها “حضارته” ! حضارة مغمسة بالدماء !

فنجد جزءاً من المفكرين ، ينظّر لزراعة مفاهيم ، لا تتوفر لها التربة ! ويلعن الناس الذين لا يُقدمون على تغيير تربتهم لتنفع معها البذور الهجينة !

لا يمكن للفلسفة الحياتية أن تُثمر إلا إذا كانت جذورها ممتدة في تاريخ الجماعة ، غير مغتربة عنها ، ولا محتقرة لها ! بل بالعكس ، تحترمها ، تتقبلها ، وتتوافق معها ! وعندما تنتقدها ، تفعل ذلك من خلال سياقها لا سياقنا الراهن ! إذ يتم أحياناً تجاهل أن “ذاك” العصر ليس هو “ذا” ، وأن فهم “ذاك” لا يكون عبر آليات وسياقات “ذا” ! هذا النقد يهدف للفهم وللبناء !

وهنا تظهر أهمية المفكر الملتزم !

المفكر الملتزم هو من يقدر على توصيف الأزمة بدقة … ثم … يفترق إلى نوعين !

نوع يستخدم الإنشائيات ، فحلوله مفككة ، عامة ، ولا يمكن تطبيقها ! ونوع قادر على إجتراح حلول عملية ، متدرجة ، مجدولة ، كما يُمأسس دور المراقبة والمحاسبة ، ليتأكد من كون الحل/الخطة/الأهداف تتحقّق .

هذا النوع الثاني ، ما يطلق عليه تعبير القائد !

وهنا نصل إلى أصل الأزمة كما أراه ! وهو غياب القيادة …

وهنا ، ينفع إستقراء التاريخ ! إستقراء الثورات التي حدثت منذ بداية التأريخ إلى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين .

فالقائد الملتزم هو شخص بموقع المسؤولية ، قادر على التوصيف السليم ، كما على إجتراح حلول مناسبة ، تبعاً لسلم أولويات زمني … يتبعه الجمهور … ويثق به ! والأهم أنه يقدر على إعادة ثقة الجمهور بنفسه كما بتاريخه !

عندما يحترم الجمهور قائده ، سيتصالح مع تاريخه !

بهذا المعنى للقائد ، يصبح كل مفكر ملتزم قائداً مسؤولاً …

هذا صحيح …

لكنها بالطبع أثقل على من هو بموقع القدرة على التنفيذ !

وإلا سنبقى نعاير حالتنا على حالة الآخر “الأبيض” ، ونسأل – كما فعل “مفكرو” القرن الماضي :

لماذا تقدموا وتأخرنا ؟!




ملاحظة : نشرتها مسبقاً على مدونتي على هذا الرابط .

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.