أزمة الأنثروبولوجيا المعاصرة

كلود ليفي ستروس

في حقبة استقلال البلدان الأفريقية، كان كل شيء يوحي بأن الأنثروبولوجيا سوف تقع ضحية المؤامرة التي حاكتها ضدها الشعوب التي تعارضها في ظل تواري شعوب أخرى. فما هي أهداف هذا العلم في السياق العالمي الجديد؟ أجاب ليفي ستروس على هذا السؤال في “رسالة اليونسكو” نوفمبر/تشرين الثاني 1961.

تحتل الأنثروبولوجيا في الفكر الحديث موقعاً قد تبدو أهميته على شيء من التناقض. فهي تمثل علماً مطابقاً لذوق العصر، كما يشهد عليه رواج أفلام وروايات الرحلات، وإنما أيضاً حب اطلاع الجمهور المثقف على كتب علم الإنسان. في أواخر القرن التاسع عشر، كنا نتوجه أولاً إلى علماء البيولوجيا طلباً لفلسفة تعنى بالإنسان والعالم؛ ثم التفتنا نحو علماء الاجتماع والمؤرخين وحتى الفلاسفة. لكن الأنثروبولوجيا بدأت تقترب أكثر فأكثر من هذا الدور منذ بضعة أعوام، وبتنا ننتظر منها أيضاً الاستنتاجات والأجوبة الكبرى، علاوة على الأسباب التي تحثنا على العيش والأمل.
يبدو أن الحركة انطلقت في الولايات المتحدة، هذا البلد الفتي الذي يواجه مهمة إنتاج مذهب علمي على مقاسه يُعنى بتنمية مناقب الإنسان وفكره ويتخذ من الإنسان في حياته الواقعية موضوعاً له، دون التقيد بتاتاً بالإجلال للحضارتين اليونانية والرومانية حصراً بحجة أنه في أوروبا العجوز، عندما بدا الإنسان – خلال عصر النهضة – بمثابة موضوع الدراسة الأكثر ملاءمة وإلحاحاً، كنا نملك معلومات وافية عن هاتين الحضارتين دون سواهما. لكن في القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين أكثر بعد، أصبح من السهل بلوغ مجمل المجتمعات البشرية تقريباً. وعلى هذا الأساس، لم تعد هناك من حاجة للتقيد بحضارتين فقط. وعندما ندّعي التبصر في الإنسان في كليته، يستحيل إهمال أمراً مزدوجاً، وهو أن البشرية، خلال 99% من مدة دوامها على الكوكب، وعلى أكبر مساحة من الأراضي المأهولة، لم تعرف حتى الآن أنواعاً من الحياة والمعتقدات والمؤسسات إلا تلك التي يتحتم على علماء الأنثروبولوجيا دراستها.كما أن الحرب العالمية الأخيرة عززت هذا التوجه. وبغتة، منحت استراتيجية عالمية النطاق وجوداً وواقعاً للمناطق الأكثر عزلة على وجه كوكبنا، تلك المناطق عينها التي وجدت فيها الشعوب “البدائية” ملاذاً: مناطق “الشمال الأمريكي الكبير”، غينيا الجديدة، داخل مناطق آسيا الجنوبية الشرقية والجزر الأندونيسية.

لقد تقلص العالم

منذ ذلك الحين، ظلت أسماء محمَّلة بالأسرار والغرابة مسجلة على الخريطة، لتشير فقط إلى نقاط عبور الرحلات الجوية الطويلة. وفي موازاة تطور علم الطيران، كانت المسافات تقصر وكوكبنا الأرضي ينكمش أكثر، فيما قواعد الصحة العامة تثمر عن نتائج عديدة، وفي طليعتها ازدياد عدد السكان على نحو لافت، إلى جانب تكاثف عمليات التبادل والاتصال على المستوى النفسي والأخلاقي.في هذه الأرض التي أصبحت “أكثر صغراً”، والتي ينشط فيها عدد متزايد دوماً من السكان، لم يبق جزء من البشرية، مهما كان بعيداً عنا جغرافياً و”متأخراً” في نظرنا، إلا وكان على اتصال مباشر أو غير مباشر بجميع البشر الآخرين، علماً أن لأحاسيسه وطموحاته وأمنياته ومخاوفه علاقة مباشرة أيضاً، على صعيد الأمن والازدهار والوجود، بأحاسيس وطموحات وأمنيات ومخاوف سائر السكان الذين يبدو أن التطور المادي أنعم عليهم بنوع من السلطة المقدسة.

وفي عالمنا المحدود هذا، يبدو إذاً أن رواج الأنثروبولوجيا – مذهب الأنسية الذي لا يعرف قيوداً ولا حدوداً – يشكل النتيجة الطبيعية لمصادفات موضوعية. وحتى لو أردنا ذلك، فنحن ما عدنا نملك حرية تجاهل آخر صيادي البشر (“صيادي الرؤوس”) مثلاً في غينيا الجديدة لأن هؤلاء، ببساطة، يبدون اهتماماً بنا. وكنتيجة غير متوقعة لجهودنا وتصرفنا إزاءهم، أصبحنا نشكل معاً جزءاً من العالم نفسه، وعما قريب، من الحضارة نفسها.

لا ريب أن التأملات البشرية المعقدة تؤدي في النهاية، بعد عملية متطورة من اللف والدوران، إلى تداخل الأفكار الأكثر تباعداً والعادات المتشعبة منذ آلاف السنين. فمن خلال الانتشار في مجمل بقاع الأرض، تتأثر الحضارات التي كانت تعتبر نفسها الأسمى – عن خطأ أو عن صواب – أي الحضارة المسيحية والإسلامية والبوذية، وعلى مستوى آخر، الحضارة الميكانيكية الجامعة بينها، بأساليب الحياة وأنماط الفكر والفعل ذاتها التي تشكل موضوع دراسة الأنثروبولوجيا، والتي تحدث عليها تحولاً من الداخل دون أن نعي ذلك بوضوح. إذ أن الشعوب المسماة بـ”البدائية” أو “القديمة” لا تفنى أو تقع في العدم، وإنما تنحل وتذوب عن طريق الاندماج، على نحو سريع نسبياً، ضمن الحضارة المحيطة بها. وفي الوقت ذاته، تكتسب هذه الأخيرة طابعاً عالمياً.

الأنثروبولوجيا: علم بدون موضوع؟

هذا يعني أن الشعوب “البدائية” لا تفقد أهميتها في نظرنا تدريجياً، بل على العكس، لأن العلاقة التي تربطنا بها تتوطد يوماً بعد آخر. ولنأخذ مثلاً على ذلك: فتلك الحضارة العظمى التي يزهو بها الغرب بحق، والتي أخصبت الأرض المأهولة، تولد ثانية انطلاقاً من خليط “كرييولي”. كما أنها تستوعب أثناء انتشارها عناصر أخلاقية ومادية كانت غريبة عنها، وبات عليها أن تأخذها في الحسبان. ومن هذا المنطلق، ما عادت المشاكل الأنثروبولوجية تنتمي إلى حقل اختصاص واحد، أو تُحفظ للعلماء والمستكشفين، بل أصبحت على نحو مباشر وفوري قضية جميع المواطنين. فإلى ماذا يُعزى التناقض المذكور أعلاه؟ […] طالما أن علمنا حدد لنفسه بشكل رئيسي دراسة الشعوب “البدائية” – يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت الأنثروبولوجيا، في الوقت الذي يعترف الرأي العام بقيمتها، على وشك أن تصبح علماً من دون موضوع. لأن هذه التحولات نفسها التي تغذي اهتمامنا المتزايد على الصعيد النظري بـ”البدائيين” تسبب انقراضهم عملياً. ولا شك أن هذه الظاهرة ليست بالجديدة. فلقد سبق للعالم فرايزر أن أشار إليها بعبارات مأسوية عند تدشين كرسي الأستاذية في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية، عام 1908، وكان يتوجه بكلامه حينئذٍ إلى الحكومات والعلماء. ومع ذلك، فلقد كان تواتر الأحداث قبل نصف قرن أبطأ بكثير مما هو عليه اليوم، والأحداث لا تني تتسارع منذ تلك الفترة.

تشكل القوانين العامة المتعلقة بتنمية المجتمع والثقافة، وحتى حدود علم السلالات (الأنثروبولوجيا) كعلم، […] موضوعاً خلافياً. لكن الطريقة التي يعالج فيها ليفي ستروس هذه المشاكل وغيرها […] تعاني من إفراط في التمسك بالقواعد الشكلية، وهو أمر ملازم للأسلوب البنيوي، الذي يُعد حالياً التيار المفضل في الأوساط العلمية، علماً أن ليفي ستروس يُعد أبرز ممثل له.

ولنتوقف عند بعض الأمثلة. لقد تناقص عدد السكان الأصليين الأستراليين من 000 250 نسمة في بداية حقبة الاستعمار إلى 000 40 نسمة تقريباً. ويرد وصف بشأنهم في التقارير الرسمية على أنهم “مزروبون” تارةً لدى البعثات الدينية التبشيرية، وفي جوار المنشآت المنجمية تارة أخرى، وقد تحولوا – عوضاً عن جمع ولمّ المنتجات البرية – إلى نهب القمامة عند أبواب المخيمات. وهم يُطردون طوراً من الصحارى القاحلة التي كانت تشكل مأوى لهم بعد نصب قواعد للتفجيرات الذرية وإطلاق الصواريخ.

وما زالت غينيا الجديدة التي تتمتع بحماية محيط طبيعي عدائي، تبدو بسكانها الأصليين الذين يبلغ عددهم بضعة ملايين، آخر ملاذ للمؤسسات البدائية. بيد أن الحضارة دخلت إليها بسرعة كبيرة إلى درجة أن سكان جبال المنطقة الوسطى، وعددهم 000 600 نسمة، يقدّمون من الآن حصتهم من العاملين لبناء الطرق، وكانوا مجهولين منا تماماً قبل عشرين عاماً. وباتت الطائرات في المنطقة تنزل بالمظلات عواميد الدلالة وعلامة المسافات فوق الغابات المجهولة، وحتى اليد العاملة التي يجري اختيارها ميدانياً، ويتم نقلها جواً إلى المناجم والمزارع الساحلية. وفي الوقت ذاته، تستقر في هذه المناطق الأمراض المستوردة بكل قوتها المدمرة، والتي لم يكتسب السكان الأصليون بعد أي مناعة لمقاومتها: السل، الملاريا، التراخوما، الجذام، الديسنتاريا، حرقة البول، الزُهري، أو عواقب مرض غامض ناتج عن حضارة كانت سبباً في إيقاظه دون إشاعته: الكورو، وهو انحلال وراثي مميت لم يُعرف له علاج بعد.

في البرازيل، تعرضت مائة قبيلة للفناء بين عام 1900 و1950. وتناقص أعضاء جماعة “كاينغانغ” في ولاية ساو باولو من 200 1 نسمة عام 1912 إلى 200 عام 1916، وقد بات عددهم يبلغ 80 نسمة اليوم. كما تراجع عدد أفراد جماعة “موندوروكو” من 000 20 في عام 1875 إلى 200 1 في عام 1950. ومن جماعة “نامبيكوارا” – 000 10 في عام 1900 – لم أعثر سوى على ألف نسمة في عام 1940. أما جماعة “كايابو” بجوار نهر أراغوايا، فلقد تناقص عدد أعضائها من 500 2 في عام 1902 إلى 10 أشخاص في عام 1950، وعدد أفراد جماعة “تيمبيرا”، من 000 1 نسمة في عام 1900 إلى 40 في عام 1950…

كيف يمكن تفسير سرعة هذا الانهيار؟ أولاً، من خلال استيراد الأمراض الغربية التي لا تتمتع بنية السكان الأصليين بأي مقاومة ضدها. وسأكتفي بذكر مصير جماعة من سكان المنطقة الشمالية الشرقية في البرازيل، وتدعى “أوروبو”. فبعد أعوام قليلة على اكتشافها، أصيب أعضاء هذه الجماعة بداء الحصبة في عام 1950. ومن أصل 750 نسمة، توفي في غضون أيام قليلة 160 شخصاً. وقد وصف شاهد عيان الوضع بالعبارات التالية:

“كانت القرية الأولى مقفرة، بعدما هرب جميع سكانها وكانوا واثقين من أن المرض كائن فوق طبيعي يهاجم القرى ويمكن الإفلات منه بالفرار بعيداً جداً. وقد عثرنا عليهم في الغابة حيث كانوا يقيمون بشكل مؤقت هرباً من “الشر” الذي وقعوا ضحايا له دون أن يعلموا، إذ أصيبوا جميعاً تقريباً بالمرض. كانوا منهكين ويرتجفون من جراء الحمّى، والأمطار متساقطة. وبفعل المضاعفات الرئوية والمعوية، أصبحت صحتهم متلفة إلى درجة ما عادت لهم فيها من قوة للبحث عن غذاء. حتى أن المياه كانت تنقصهم. فماتوا جوعاً وعطشاً ومن عواقب المرض أيضاً.

وكان الأطفال يزحفون على الأرض سعياً للحفاظ على النار مشتعلة، تحت المطر، بحثاً عن بعض الدفء. والرجال ألهبتهم الحمّى، فكانوا وكأنما أصيبوا بالشلل. والنساء لا يعين ما يفعلن ويبعدن عن أثدائهن الأطفال الذين يحاولون الرضاعة”.

عندما يكون الساكن الأصلي مرادفاً للساكن المعوز

في عام 1954، أدّى إنشاء بعثة دينية تبشيرية على ضفاف نهر “غوابوري” عند الحدود بين البرازيل وبوليفيا بأربع قبائل مختلفة إلى الانضمام إليها. وأقام في هذا المكان، لبضعة أشهر، 400 شخص أبيدوا جميعاً جراء داء الحصبة بعد فترة قليلة… وعلاوة على الأمراض المعدية، لعبت أمراض العوز دوراً في هذه الإبادة: من الاضطرابات الحركية، إلى الجراح في العينين، وتسوس الأسنان. فلقد كانت هذه العوارض مجهولة عندما كان السكان الأصليون يعيشون تبعاً لأساليبهم القديمة، وظهرت عندما استقروا في القرى وأرغِموا على نظام غذائي مختلف عن نظام الغابة.

في تلك الفترة، أصبحت وسائل العلاج التي اختبرها السكان عبر الزمن، كمعالجة الجراح البالغة بواسطة لصقات من فحم الخشب، غير مجدية. واشتدت حدة الأمراض العادية إلى درجة أنه في حالات الإصابة بالديدان، مثلاً، كانت الديدان تخرج من فم وأنف الأطفال.

وثمة نتائج أخرى نجمت عن هذا الوضع، وإن كانت غير مباشرة، كانهيار نمط الحياة والتنظيم الاجتماعي. إذ كانت جماعة “كاينغانغ” في ساو باولو – المذكورة أعلاه – تتبع قواعد اجتماعية يعرفها علماء الاثنولوجيا جيداً: وكان قوام كل قرية مقسَّماً إلى مجموعتين تخضعان لقاعدة محددة تقضي بأن يتزوج رجال المجموعة الأولى امرأة من المجموعة الثانية وبالعكس.

لكن ما أن ينخفض عدد السكان، وما أن تنهار القاعدة الديمغرافية، لا يعود هذا النظام الصارم يتيح لكل رجل أن يجد زوجة له. وبالتالي، يُحكم على عدد كبير من هؤلاء بالعزوبة؛ إلا إذا انقادوا لما يبدو لهم ارتكاباً للمحارم – شرط أن يبقى الاقتران عقيماً دون أطفال. وفي مثل هذه الحال، قد يتوفى السكان كلهم في غضون بضعة أعوام. [لقد استقينا هذه المعلومات بشأن تواري هنود البرازيل، في معظمها، من عمل عالم الاثنولوجيا البرازيلي البارز، الدكتور دارسي ريبايرو، ساو باولو، 1956].

وبناء عليه، كيف لنا أن نصاب بالحيرة أمام الصعوبة المتزايدة ليس فقط أمام دراسة السكان “البدائيين”، وإنما أيضاً أمام تقديم تعريف شافٍٍ للعقل؟ فعلى مرّ الأعوام القليلة الماضية، اجتهدت التشريعات الحمائية المنفذة في البلدان التي تواجه هذه المشكلة، في مراجعة المفاهيم المُجازة. لكن في مثل هذا الإطار، ما عاد بالإمكان صون اللغة والثقافة وإحساس الجماعة بذاتها. وكما تشدد عليه تحقيقات مكتب العمل الدولي، بدأ مفهوم “الساكن الأصلي” يتلاشى ليحلّ محله مفهوم “الساكن المعوز” [مكتب العمل الدولي، الشعوب الأصلية، جنيف 1953].

شعوب ترفض أن تكون موضع تحقيق

على أن هذه الصورة لا تكشف لنا سوى جزء من الواقع. ففي مناطق أخرى من العالم، ثمة شعوب تشكل منذ زمن طويل موضوع دراسات علم الإنسان، ويبلغ قوامها عشرات، لا بل مئات الملايين من السكان. وهي لا تني تتزايد عدداً. تلك هي الحال في مناطق أمريكا الوسطى والأنديز وآسيا الجنوبية الشرقية وأفريقيا. وإذا كان علم الإنسان يواجه تهديدات من نوع آخر في هذه المناطق، فإن مواقف الأنثروبولوجيا لا تقل هشاشة هنا عما سبق أن ذكرناه أعلاه. لكن هذا الخطر نوعي وليس كمياً، وهو قائم من عدة نواحٍ. فمن الناحية الموضوعية مثلاً، يشهد هؤلاء السكان تحولات وحضاراتهم تقترب أكثر فأكثر من حضارة الغرب التي اعتبرتها الأنثروبولوجيا لفترة طويلة غريبة عن نطاق اختصاصها. ومن الناحية الذاتية بالأخص، إنها شعوب تبدي حساسية متزايدة حيال التحقيقات الإتنية التي تخضع لها. حتى أنه سُجلت حالات تغيرت فيها أسماء المتاحف الإقليمية المسماة بـ “الجغرافية الاثنية” إلى “متاحف الفنون والتقاليد الشعبية”.

لا شك أن المؤسسات الجامعية في الدول الشابة التي حققت الاستقلال حديثاً تبدي ترحيباً حاراً بعلماء الاقتصاد والنفس والاجتماع. ولا يسعنا القول إن هذا الأمر ينطبق على علماء الأنثروبولوجيا. فجميع العوامل تشير إلى أن الأنثروبولوجيا وكأنها على وشك أن تقع ضحية مؤامرة حاكتها شعوب ترفضها رفضاً جسدياً – من خلال الاختفاء عن وجه الأرض – في حين أن شعوباً أخرى حيّة، نابضة بالحياة وتعرف نمواً ديمغرافياً كبيراً، تقاومها على المستوى النفسي والأخلاقي.

ومواجهة الخطر الأول لا تثير مشكلة. إذ يجب استعجال البحوث واغتنام الأعوام الأخيرة المتبقية لاستقاء المعلومات التي تكتسي هنا قيمة إضافية لكون العلوم الاجتماعية والإنسانية، بخلاف العلوم الطبيعية، غير قادرة على إثبات تجاربها.

يشكل كل نموذج اجتماعي، وكل معتقد ومؤسسة، وكل أسلوب للحياة، تجربة قائمة بذاتها وثمرة لتاريخ يرقى إلى آلاف السنين. وبهذا المعنى، فإنها تجربة لا يمكن الاستعاضة عنها. ومع تواري الشعب الذي يجسدها، يُغلق باب للمعرفة بشكل نهائي، مما يمنع متتبعيها الوصول إلى معارف يُتعذر اكتسابها بطريقة أخرى […]

والخطر الثاني أقل جسامة في المطلق، لأنه يتعلق بحضارات لا تواجه أي تهديد مادي؛ لكن التصدي له بفعالية في الظرف الراهن يبقى أكثر صعوبة بكثير. فهل يكفي بالفعل تبديد حذر ومخاوف الشعوب التي كانت منذورة في الماضي لمراقبة علماء الأنثروبولوجيا من خلال إرساء مبدأ قائل إن تحقيقاتنا، من الآن فصاعداً، لن تنفذ في اتجاه واحد؟ وهل أن علمنا سيستعيد أسسه واعتباره لو قدم إلينا علماء الأثنولوجيا من أفريقيا وميلانيزيا لإجراء البحوث التي كنا وحدنا نجريها لديهم في الماضي، لقاء صون الحرية التي كانت لنا؟

هذه المعاملة بالمثل مُستحبة لأنها تصب أولاً في مصلحة علمنا الذي، من خلال تعدد الآفاق، سيكون قادراً على تحقيق إنجازات جديدة. لكن علينا ألا نستسلم للأوهام. فهذه المعاملة بالمثل لن تحل المشكلة لأن الحل المقترح لا يأخذ في الحسبان الدوافع العميقة والكامنة لرفض الأنثروبولوجيا من جانب الشعوب التي خضعت سابقاً للاستعمار. وما تخشاه هذه الشعوب فعلاً هو أن يُصار، تحت غطاء الرؤية الأنثروبولوجية للتاريخ الإنساني، إلى تمرير وضع لا يُطاق من عدم المساواة بوصفه تنوعاً مستحباً. وإن جاز التعبير بقلم عالم للأنثروبولوجيا يستبعد أي مفهوم ينتقص من قدر هؤلاء، حتى على صعيد المراقبة العلمية، فإن الغربيين لن يستطيعوا أبداً – إلا ربما في إطار لعبة صبيانية – الاضطلاع بدور “الشعوب البدائية” في نظر الذين خضعوا لسيطرتهم في الماضي. فعندما كنا نخصص لهم هذا الدور، كانوا يجسدون في نظرنا واقعاً محدداً بوصفهم موضوع دراسة علمية أو موضوع سيطرة سياسية واقتصادية. ونحن الذين نجسد، في نظرهم، المسؤولين عن مصيرهم الحالي، نبدو حتماً كممثلين لهذا الماضي، ومن هنا صعوبة اعتماد موقف تأملي تجاهنا.

ومن المفارقة أيضاً أن العديد من علماء الأنثروبولوجيا، في سعيهم من دون شك لمراعاة هذه الشعوب، اعتمدوا نظرية التعددية (التي تؤكد على تنوع الثقافات الإنسانية وتعترض بالتالي على إمكانية تصنيف حضارات معينة بصفتها “متفوقة” على حضارات “أدنى” منها منزلة). وهؤلاء العلماء أنفسهم – ومن خلالهم الأنثروبولوجيا ككل– يواجهون اليوم اتهامات بنكران هذه الدونية لغاية محددة هي التستر عليها، وإذاً للإسهام مباشرة في بقائها.

الأنثروبولوجيا علم “الداخل” بعدما كانت علم “الظاهر”

إذا كان للأنثروبولوجيا أن تصمد في العالم المعاصر، يجب ألا نخفي على أنفسنا أن هذا يعتمد على إحداث تحول أكثر عمقاً بكثير من مجرد توسيع دائرتها (المغلقة بإحكام حتى الآن) – والتي تقتصر على الصيغة الصبيانية التي نعرض من خلالها على الوافدين الجدد ألعابنا مقابل مواصلة اللعب بألعابهم. يجب على الأنثروبولوجيا أن تحدث تحولاً في طبيعتها بالذات، والاعتراف، بالفعل، بأن ثمة استحالة، من الناحية المنطقية والأخلاقية على حد سواء، للإبقاء على مواضيع الدراسة العلمية للمجتمعات مع التأكيد على أنها تمثل مواضيع جماعية، وأن تطالب، بناء عليه، بالحق في التغيير.

وبالنسبة للأنثروبولوجيا، ينطوي تحوّل موضوع الدراسة على تغير في الأهداف والأساليب. ويبدو هذا الأمر ممكناً، لحسن الحظ، في حال الاعتراف بفرادة اختصاصنا، بمعنى أنه لم يحدد نفسه يوماً في المطلق، وإنما في صلب العلاقة القائمة بين المُراقب وموضوع دراسته، وأنه كان في كل مرة يقبل بالتحوّل مع كل تطور جديد ضمن هذه العلاقة. لا ريب أن ما يميز الأنثروبولوجيا هو دراستها دوماً لما هو “ظاهر”. لكنها لم تفعل ذلك إلا لكون الدراسة من “الداخل” أمراً مستحيلاً بالنسبة إليها.

ومن وجهة النظر هذه، تتبدى الثورة الكبرى في العالم الحديث، على مستوى العلوم الإنسانية، في أن حضارات كاملة باتت تتمتع بإحساس بالذات وقد اكتسبت – مع محو الأمية – الوسائل الضرورية لإحداث التغيير اللازم. فلقد شرعت هذه الحضارات، على غرار القارة الأوروبية في عصر النهضة، في دراسة ماضيها، وتقاليدها، وكل ما تبقى من هذه التقاليد، على نحو خصب لا يمكن الاستعاضة عنه.

فإذا كانت أفريقيا – ونكتفي بذكر هذا المثل – على وشك “الإفلات” من الأنثروبولوجيا، فهي لن تفلت من العلم. وعوضاً عن إجراء الدراسة من جانب علماء الأنثروبولوجيا بشكل رئيسي – أي محللي الخارج، الذين يعملون على ما هو ظاهر – سيتعين على علماء الواقع الخام، أو العلماء الخارجيين، من الآن فصاعداً، أن يتولوا هذه المهمة باستخدام الأساليب نفسها التي يستعين بها زملاؤهم المحليون. ولن يعود هناك من علماء أنثروبولوجيا، وإنما علماء لغة، وفقه اللغة، ومؤرخي الوقائع والأفكار. وسوف تستقبل الأنثروبولوجيا بجذل هذا الانتقال إلى أساليب أكثر دقة وغنىً من أساليبها، وهي متيقنة من تأديتها لمهمتها، طالما كانت وحدها قادرة على القيام بها، ومن ثم إتاحة الانتقال إلى مكامن متعددة للغنى البشري في مدار المعرفة العلمية.

التنوع، مبرّر وجود الأنثروبولوجيا

أما فيما يخص مستقبلها، فيبدو أنه مضمون على النحو الأفضل فيما يتجاوز مواقفها التقليدية. على المستوى الجغرافي أولاً، إذ بات علينا اليوم اجتياز مسافات أطول للوصول إلى آخر الشعوب المسماة بالبدائية، وقد أضحت هذه الشعوب نادرة. وعلى المستوى المنطقي أيضاً، إذ أننا ملزمون بالحفاظ على ما هو جوهري فحسب دون التوقف أمام النوافل. ونحن أثرياء بمكتسبات هامة جداً على هذا الصعيد، وباتت معارفنا واسعة جداً.

كما أن هذا المستقبل مضمون بمعنى مضاعف أيضاً: إذ أن انهيار القواعد المادية لآخر الحضارات البدائية يجعل من التجربة الخاصة، الحميمة، إحدى آخر وسائل التحقيق المتوافرة لدينا، في غياب الأدوات الأخرى المفقودة. أما الحضارة الغربية التي تتزايد تعقيداً يوماً بعد آخر، وتواصل انتشارها في مجمل بقاع الأرض المأهولة، فلربما تشهد من الآن، في صميمها، هذه الفوارق والتباينات التي يقع على الأنثروبولوجيا دراستها، والتي كانت عاجزة عن الوصول إليها في الماضي إلا بمقارنة حضارات مختلفة ومتباعدة فيما بينها.

هنا تكمن من دون شك الوظيفة الثابتة للأنثروبولوجيا. فإذا كان يوجد، كما أكد عليه هذا العلم دوماً، “حداً أمثل من التنوع” يُعتبر بمثابة شرط دائم لتنمية البشرية، يمكن أن نكون على يقين أن الفروق بين المجتمعات والمجموعات لن تزول أبداً إلا لتتشكل ثانية على أصعدة أخرى. ومَن يدري ما إذا كانت النزاعات بين الأجيال التي تشهدها بلدان عديدة في هذا الظرف بالذات لا تشكل ضريبة يجب دفعها لضمان التجانس المطرد لثقافتها الاجتماعية والمادية؟

تبدو لنا هذه الظواهر مَرضيّة. لكن ما يميز الأنثروبولوجيا، منذ أن رأت النور، هو، على الدوام، شرحها وإعادة دمجها لهذه الظواهر ضمن سياق الإنسانية والعقلانية وسلوك البشر أنفسهم، بعدما كانت تبدو مرفوضة وغير مفهومة من جانب بشر آخرين. وهكذا، أسهمت الأنثروبولوجيا، في كل حقبة تاريخية منذ ولادتها، في توسيع أفق المفاهيم السائدة، الضيقة دائماً، بشأن ما هو بشري. وقبل أن نتأمل في إمكانية تلاشي هذا العلم، يجب أن نتصور أولاً حالة من الحضارة حيث يكون جميع البشر، في أعماق قلوبهم وأحاسيسهم، شفافين تماماً أمام سائر البشر، أياً يكن المكان الذي يقطنونه على وجه المعمورة، سواء في أسلوب الحياة أو التربية أو المهنة أو السن أو المعتقدات أو مشاعر الود والمشاركة الوجدانية أو التنافر.

وسواء أسفنا أو سُررنا لذلك – أو، ببساطة، اكتفينا بتسجيله – يبدو أن التطور الآلي وتنمية الاتصالات لا يقوداننا إلى مثل هذه الحالة. وطالما أن أساليب وجود وفعل بشر معيَّنين تطرح مشاكل على بشر آخرين، سيكون هناك حيز للتفكير والتأمل بشأن هذه الاختلافات، التي ستمثل على نحو متجدد دائماً مجالاً لدراسات الأنثروبولوجيا.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.