أرنولد فان جنب وحيداً في مواجهة دوركايم

أرنولد فان جنب وحيداً في مواجهة دوركايم

ملمح من تاريخ الأنثروبولوجيا الفرنسية

الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم*

المقدمة:
تعرض أرنولد فان جنب إلى تهميش وعزل ونقد قاس من قبل أقطاب مدرسة «الحوليات الاجتماعية» التي كان يتزعمها عالم الاجتماع الفرنسي «أميل دوركايم» وكذلك من قبل أعضائها في باريس، إلا أن ذلك لم يمنعه من إبداء اعتراضاته وانتقاداته لأعمال المدرسة، خاصة نقده لــ «دوركايم» لعدم تحليه بالموقف النقدي في عمله «الأشكال الأولية للحياة الدينية»، ذلك أنه تجاهل الفرد ودوره، وإعطائه دوراً مبالغاً فيه للجماعة. كما انتقد رؤية «دوركايم» للمجتمعات وللسكان الأصليين في أستراليا من حيث كونها مجتمعات بدائية تقليدية ومن ثَمّ نظر إلى الدين لديهم بصفته بدائياًّ، في حين أن هذه المجتمعات ومعتقداتها الدينية على درجة كبيرة من التعقيد.

وعلى الرغم من عدم تمكن فان جنب من تحقيق مستقبلٍ أكاديميًّ ناجح، إلا أنه كان باحثاً مميزاً. كانت اهتماماته الواسعة لا تتناسب والنماذج السائدة من الباحثين في عصره، كما أنه في الوقت الذي أكسبته آراؤه الصريحة عدداً متزايداً من الأصدقاء والمعجبين، أكسبته أيضاً، وفي المقابل، عدداً لا يستهان به من الأعداء. فانتقاداته لـ «دوركايم» ومدرسته قد تسببت في إغلاق الأبواب في وجهه، وحالت دون التحاقه بالتدريس في أي من المؤسسات الأكاديمية الفرنسية. كما كانت آرؤه الصريحة المناهضة لألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، سبباً في إبعاده من سويسرا التي اتخذت آنذاك موقفاً محايداً خلال الحرب، وكان من جراء ذلك أن فقد عمله الأكاديمي في جامعة «نوشاتل» أستاذاً للإثنوغرافيا خلال سنوات 1912-1915م.

التكوين الاجتماعي والأكاديمي:

ولد أرنولد فان جنب في مقاطعة «أورتمبرغ» بألمانيا في الثالث والعشرين من أبريل عام 1873م. كان والد فان جنب يعمل ضابطاً في البلاط الملكي لمملكة «لود فيغسبورغ»، حيث وفد إليها مهاجراً من فرنسا، أما والدته فهي من أصول هولندية ولكنها تتملك عدد كبير من الأقارب الفرنسيين. عندما كان فان جنب في السادسة من عمره أنفصل والداه، فغادرت والدته إلى «ليون»، حيث التحق بها، وهناك ارتبطت بزوج فرنسي «بول روج» كان يعمل طبيباً متخصصاً في الجراحة، وبسبب ظروف عمل الزوج انتقلت الأسرة للعيش في منطقة «سافوا» بفرنسا.
التحق فان جنب بإحدى مدارس «ليون»، لكن سرعان ما غادرها في سن العاشرة إلى إحدى المدارس في باريس، ثم واصل تعليمه الثانوي في مدرسة داخلية في مدينة «نيس» وذلك عندما انتقل والداه للعمل في جنوب فرنسا. يقول فان جنب عن تجربته المدرسية أنه حصل على درجات سيئة عن سلوكه وانضباطه، ولكن درجاته في مجال الدراسة والبحث في مختلف الفروع العلمية كانت متقدمة، باستثناء الرياضيات.

كان والداه، خاصة زوج والدته، يتطلعان لمواصلة تعليمه الجامعي في مجال الجراحة في باريس، أما هو فاتجه نحو دراسة العمل الدبلوماسي مبرراً اهتماماته تلك بامتلاكه موهبة إجادة اللغات الأجنبية، إذ كان يجيد ما يقارب العشر لغات بالإضافة إلى عدد آخر من اللهجات. تصاعدت خلافات فان جنب مع والديه عندما ارتبط بفتاة بولندية، حيث قرر الزواج بها خلافاً لرغبتهما، فغادر في عام 1897م إلى بولندا، والتحق هناك بالتدريس في إحدى الكليات، وأقاما معاً حتى عام 1901م، ثم عادا معاً إلى فرنسا مرة أخرى.
ذهب فان جنب إلى باريس لدراسة الفولكلور في جامعة السوربون، على أنه أصيب بخيبة أمل عندما وجد أن جامعة السوربون لا تدرس هذا الاختصاص، في ضوء ذلك غادر متجهاً إلى «مدرسة اللغات الشرقية» لدراسة اللغة العربية. ودرس الفيلولوجيا واللسانيات العامة في «المدرسة التطبيقية للدراسات العليا»، كما درس في نفس المدرسة: الدراسات المصرية، واللغة العربية القديمة، والديانات البدائية، والثقافة الإسلامية.

الوقوف على المحرمات:

قضى فان جنب بضع سنوات في دراسة الطوطمية في مدغشقر وأستراليا، وأصدر حول الموضوع كتابين: «المحرمات والطموطمية في مدغشقر» و«الأساطير والخرافات في أستراليا»، بخلاف الباحثين الذين ذهبوا في بداية القرن العشرين لدراسة الطوطمية والمحرمات بهدف الوقوف على أصل الدين والقرابة، كان اهتمام فان جنب بهذه الموضوعات مبنياًّ على رغبته في القيام بدراسة معمقة لأنماط التصنيف وذلك بغرض إيجاد نماذج تحليلية للتطور الاجتماعي، هذا التطور الذي كثيراً ما كانت المعلومات المبنية عليه غير موثوقة ومُساء استخدامها.
عالج فان جنب من خلال عمله المعروف «المحرمات والطوطمية في مدغشقر» المحرمات باعتبارها عنصراً أساسياًّ في تكوين الفرد والحياة الاجتماعية. فقد أعتبرها جزءاً من جميع أنماط الاعتقاد المتجسدة في الممارسة الدينية، والسرديات الشفهية، والطب الشعبي، والأعشاب الشعبية، والتنظيم السياسي، وبنية العائلة. بعد مقدمة عامة، انتقل فان جنب في «المحرمات والطوطمية في مدغشقر » إلى استعراض موسع للأفكار السائدة عن مفهوم «المحرمات»، مع تقديم أمثلة عديدة ومتنوعة عن المحرمات السائدة في مدغشقر، كالمحرمات ذات العلاقة بــ: الأكل، والطعام، والجنس، والعشيرة، والحيوانات والنباتات، والأسرة والأطفال، والطواطم.

عالج على صعيد المعتقدات الدينية موضوع «التوحيد البدائي»، معتبراً وجوده من نتاج بعض المؤمنين بالمسيحية، وهي نظرية بدأت مع المبشرين، على الرغم من أن البعض عزا وجوده بين أهالي مدغشقر إلى الإسلام واليهودية، أما هو فلم يجد أن تلك المعتقدات التوحيدية في مدغشقر تعود إلى أي من الديانات المشار إليها. توقف فان جنب أيضاً أمام إحدى العادات السائدة بين أهالي مدغشقر والمتمثلة في قيام العائلة بتقديم إحدى نسائها إلى الرجل الغريب الذي يكون في ضيافتها حال وصوله، وذلك رغبة من العائلة في الحصول على الخاصية المقدسة للرجل الغريب. مثلما حاول فان جنب التوقف عند أنواع أخرى من المحرمات كتلك المتعلقة بالطواطم، باللغة، وبرئيس القبيلة، وبالجنس، وبالمرأة الحامل. أما المحرمات ذات الصلة بالحيوانات والنباتات، فقد أوضح أن هناك إعتقاداً يسود بأن الحيوان شقيق الإنسان.
تنبع أهمية «المحرمات والطوطمية في مدغشقر» من الجهد الرصين الذي بذله فان جنب في معالجة المعتقدات والطقوس في مدغشقر، وذلك من خلال مثالي المحرمات والطوطمية، وضاعف من رصانة هذا الجهد، الذي لم يكن مبنياًّ بطبيعة الحال على تجربة حقلية إثنوغرافية، جمع وعرض مواد إثنوغرافية تم توفيرها من مصادر أنثروبولوجية وكتابات رحالة ومبشرين، هذا بالإضافة إلى قيام فان جنب بتوثيق ببليوغرافي في غاية الأهمية.
لم يظهر فان جنب أي مسعى من جانبه لتقديم تعريف دقيق وشامل للمقصود بـالمحرمات أو التابو، وذلك بهدف إظهار الممارسات السائدة للمحرمات على صعيد العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء، وعن علاقة المحرمات بنظام الزواج الداخلي السائد، وتحريم الاتصال الجنسي بين الزوج والزوجة خلال فترة الحمل، أو عن الفئات من الرجال والنساء القابلين للتزاوج أو غيره. تناول فان جنب ما قصده بـ «المحرمات الاجتماعية»، والمعنى المزدوج له، أي من حيث الانصياع العام للمُحرم الاجتماعي باعتباره ملزماً للجميع، وعليه إنزال العقوبات على الجميع في حالة عدم التزام الفرد أو الأفراد بذلك.

لا أساطير من دون طقوس:

أما في عمله الآخر «الأساطير والخرافات في أستراليا»، فقد قام فان جنب بدراسة نقدية للنظريات التي تناولت الطوطمية في أستراليا، خاصة نظريات «أميل دوركايم» و «أندور لانغ». كما عرض من خلال هذا العمل نظريته التي تناول من خلالها الطوطمية باعتبارها نسقاً للتصنيف. عرَّج فان جنب في «الأساطير والخرفات في أستراليا»، وعبر ما يقارب المائة والثمانية والثمانين صفحة، على موضوعات متنوعة تفاوتت من الأساطير، والطوطمية، والمحرمات، والمعتقدات المتعلقة بالحمل، وإعادة البعث، إلى السحر، والطقوس الدينية. عرض فان جنب من خلال الكتاب مائة وستاًّ من الأساطير والخرافات تتعلق بأصول الإنسان والحيوان، والشمس والقمر والنجوم، والليل والنهار، والنار والماء، والرياح والبحر، والمطر، والزهور، وطقوس التعميد، والموت. حاول فان جنب أن يعتمد في تلك المواد على مصادر ثانوية بحيث تغطي المواد مختلف القبائل الأسترالية. بعض من تلك الخرافات الوصفية اشتملت على العادات المتعلقة بالزواج، وطقوس الختان، وأخرى ذات صلة بطرائق إشعال النار، وسفر الأسلاف الإسطوريين.
يعد «الأساطير والخرفات في أستراليا» الصادر في باريس عام 1906م عن دار غليمار، من الأعمال المبكرة لفان جنب، إذ يشكل هذا العمل، بالإضافة إلى «المحرمات والطوطمية في مدغشقر» جزءًا من الرسائل التكميلية لحصوله على الدكتواره. يعتمد هذا العمل على مصادر ثانوية، إذ تشكل الأعمال المنشورة لباحثين آخرين مثل: «بروسميث» و«سبنسر وجيلن» و«روث» و«بيرسيفل ستو» و«لانغلو باركر» مصادر أساسية لمحاولة فان جنب لدراسة الأساطير والخرافات، وذلك بهدف الوقوف على التكوين الثقافي للسكان ومعتقداتهم الدينية والشعبية وتنوعها، وعلى الأهمية التاريخية والأنثروبولوجية لتلك المعتقدات خاصة المتعلقة بالنظم الطوطمية. كان يرى أن ذلك يُعد أساسياًّ لاستكمال رؤيته الأنثروبولوجية لتلك الموضوعات، لذا سعى إلى تخصيص فصل من كتابه لمعالجة إثنولوجية للتكوين الاجتماعي والثقافي للسكان، خاصة البنى القرابية التي كان يُعتقد بأنه كانت تسودها نظم نسب قرابي يعتمد بعضها على النظام الأمومي وبعضها أبوية الطابع. كما عمل على محاولة الكشف عن العلاقة القائمة بين نظم هذا النسق القرابي وتلك الخاصة بالنسق الطوطمي، مفسراً هذه العلاقة والاختيارات القرابية والطوطمية على أنها مبنية على الرؤية الكسمولوجية للسكان للخصوبة والحمل والولادة.
يرى فان جنب أن الأساطير بين القبائل الأسترالية هي طقوس يتم سردها، إذ أن الطقوس نقد تفعيل يومي للأساطير في حياة تلك القبائل. ويلعب الفرد دوراً في إحداث ابتكاراته وإعادة إنتاجه اليومي لتلك الأساطير عبر الممارسة الطقوسية، وأن تلك الحالة قدامتدت عبر قرون عديدة من الزمن. يعزز فان جنب رأيه حول الأسطورة وعلاقتها بالطقوس، مؤكداً على أنه قد توجد طقوس دون أساطير، ولكن لا يمكن أن توجد أساطير دون طقوس. حاول فان جنب من خلال «الأساطير والخرافات في أستراليا» أن يظهر أيضاً علاقاتة المعتقدات الدينية، ممثلة في النسق الطوطمي، بنظم المحرمات، خاصة تلك المتعلقة بنظم الزواج والاتصال الجنسي وتناظرها مع الطوطمية على مستوى الوحدات القرابية الصغيرة والكبيرة منها في القبيلة الواحدة.

نقد الدوركايمية:

تعرض فان جنب في عمله «الأساطير والخرافات في أستراليا» إلى انتقادات كثيرة، انصب معظمها على قيامه بإصدار أحكام عامة ينقصها الإلمام بوجود تعدد وتنوع غزير للسكان وللقبائل الأسترالية، يتبعه تنوع مجتمعاتها وثقافتها، وهو أمر قد تكرر برأي النقاد عندما أصدر عمله الأول «المحرمات والأساطير في مدغشقر». كانت اهتماماته العلمية حتى عام 1920م تتشابه وتلك الخاصة بالمدرسة السوسيولوجية الفرنسية، أي من حيث اهتمامه بموضوعات مثل: الطوطمية، والمحرمات، والأنماط الأولية للدين، والزواج الخارجي، وكان حدث نشره لأُطروحته للدكتواره «الوضع الراهن لمشكلة الطوطمية»، مناسبة لإعلان تخليه النهائي عن الاتجاهات الافتراضية والتخمينية الخاصة بدراسة الطوطمية واتجاهه منذ نشره عام 1909م لــ «طقوس العبور»، وخلال عقد كامل نحو العمل الحقلي الإثنوغرافي في وكذلك دراسة الفنون والحرف المحلية.
كان الخلاف الذي أخذ التبلور بين فان جنب و «دوركايم» وأنصار مدرسته شديداً، إذ سعى عبر مسيرته الفكرية ونشاطه البحثي على مواصلة نقده للفكر السوسيولوجي «الدوركايمي»، خصوصاً تفسيرات «دوركايم» للطوطمية ولدور الفرد في المجتمع، خاصة المجتمع البدائي. تصاعدت وتيرة الكتابات النقدية لفان جنب ضد المدرسة السوسيولوجية الفرنسية أكثر منذ عام 1917م، وهو العام الذي رحل فيه «دوركايم» وقد نشر تلك المقالات النقدية في «مجلة تاريخ الأديان». ثم اتجه لعرض أفكاره بتوسع أكثر في «الوضع القائم لمشكلة الطوطمية»، خاصة رؤيته لتطور النظم الاجتماعية، التي كان يرى بموجبها أنه عوضاً عن النظر إلى الإنسان باعتباره محوراً للتطور الفكري والثقافي، أن التطور يتم في الأساس على مستوى النظم الاجتماعية أولاً ثم تنعكس على الإنسان، ومن بين تلك النظم الطوطمية. أن «دوركايم» برأيه قد سعى إلى إيجاد نظرية عامة حول الدين والمجتمع مبنية على ظاهرة مثل الطوطمية، وقد ترتب عن كل ذلك تكريسه لرؤية مغالطة للواقع، بل وتأويل قسري للوثائق، وما هذا كله إلا تبسيط من ناحية «دوركايم»، حسب رأيه.
كانت رؤية فان جنب للطوطمية مستمدة من منظوره لطبيعة الإنسان ونظمه الاجتماعية، إذ أن كل جماعة بشرية أو حيوانية لا بد من أن تعمل على وجود أمرين ضروريين من أجل استمرارها، أما الأمر الأول فيتمثل في التضامن الداخلي للجماعة في كل مكان، والأمر الثاني هو استمرارية الجماعة من خلال تعاقب الأجيال، وعليه فان الطوطمية توفر التضامن الاجتماعي والاستمرارية عبر الزمن، ومجابهة الميول نحو الاستقلال عن الجماعات الأولية للعشيرة والعائلة والطائفة، كما أنها توفر الوسائل لتأسيس المنطقة الخاصة بالجماعة والعلاقات بين الجماعات.
أبرز فان جنب من خلال «الأساطير والخرفات في أستراليا» أن الطوطمية تقوم بتوفير نسقٍ للتصنيف، وعليه فقد انتقد نظرية «دوركايم» و«أندور لانغ» حول أصل الطوطمية، مؤكداً أنها نسقٌ بسيطٌ للتصنيف مبيناً على إمتلاكه عدد من المصطلحات وذلك وفق الثقافة التي ينتمي إليها. أما المشاكل الخلافية الأخرى بين فان جنب و«دوركايم» فتدور حول دور الفرد في المجتمع. إذ أنتقد رؤية الأخير حول القوة الجماعية، بل أنكر تبعية الفرد لإرادة المجتمع، ذلك أن المجتمعات برأية مُشكّلة في الأساس من الأفراد. واصل فان جنب تصديه بشدة لمساعي «دوركايم» لوضع قوانين صارمة للمجتمع، إذ أوضح في عمله «الوضع القائم لمشكلة الطوطمية»: أن تتبع أُطروحة «دوركايم» عن الطوطمية تظهر أنه حاول أن يجعل منها أساساً لنظريته حول التطور الديني، الذي أبتدأ بالجن والآلهة، وإنتهى بـ «الرب»، أي المجتمع.
لم يكتف فان جنب بالمجال الذي وفرته له أعماله السابقة لإيصال إطروحته، بل واصل معالجاته الأنثروبولوجية للطوطمية في أعمال أخرى كان من بينها أطروحته للدكتواره «الوضع الراهن لمشكلة الطوطمية»، حيث نظر هنا إلى الطوطمية بصفتها من الوسائل المساعدة على التضامن الاجتماعي والاستمرارية خلال الزمن. في ضوء تلك المساهمات واصل فان جنب انتقاداته لـ «دوركايم»، خاصة ما كان يراه من تعميمات نظرية غير مدروسة من طرف «دوركايم»، بل تنم عن تسرع في استخدام النظرية التطورية، وتجاهلاً مطلق لأهمية الفرد وابتكاراته.

نقد الدوركايمية: إستطراد آخر:

لم يترك فان جنب المجال في مختلف أعماله دون أن يؤكد على رأية حول أهمية الفرد، وقد اتضح ذلك حتى في آخر أعماله الفولكلورية، إذ عاد ليوضح أن كون الفولكلور أمراً جماعياًّ وإبداعاً عاماًّ للناس، لا يلغى ذلك دور القوة الإبداعية للفرد. وقد ترتب على موقفه هذا من الفرد أن عارض التصور الرومانطيقي في القرن التاسع عشر الذي كان ينظر إلى الفولكلور من حيث كونه صانعاً للنشاط المجتمعي المشترك، أو من حيث أنه عاكس لفلكلور وروح الجماعة. إن هذه الرؤية المغلوطة للفرد في الثقافات التقليدية غير مستمدة برأيه من الملاحظة المباشرة، ولكن من فرضية خاطئة ترى بأن الفرد لا يمتلك أي أهمية في المجتمعات التقليدية، ان هذه الرؤية الخاطئة تحاول أن تخلط الجهل بمصدر الابتكار وغياب الفردية، وعليه فإن الأصوب برأيه أن تتم دراسة الفولكلور من خلال التركيز على دراسة الأفراد من خلال الجماعة الاجتماعية، أي في ضوء اهتمامات الجماعة؛ والجماعة ليس المقصود بها هنا العامة، كما أن الجماعية لا تعني أن الفولكلور يبتكر ويبدع بشكل جماعي.
كان من بين الانتقادات الكاسحة التي خاض غمارها فان جنب ضد «دوركايم» تلك المتعلقة بموقفه من عمل الأخير «الأشكال الأولية للحياة الدينية»، سواء من حيث مضمونه النظري أو منهجية «دوركايم» في الكتاب، وهي من الأمور التي لم تمكن القارئ برأيه من تتبع التسلسل المنطقي الذي يدعيه «دوركايم». كان يرى أن الجانب الإثنوغرافي في الكتاب يعتبر الجزء الأضعف، ولعل ذلك يعود إلى اعتماد «دوركايم» على معلومات أسترالية غير دقيقة، تعامل معها كما لو كان الذين قاموا بجمعها والتعليق عليها قد جمعوا نصوصاً مقدسة، ويضيف فان جنب أنه عوضاً عن قيام «دوركايم» بتميحصها لجأ إلى القبول بها، رغم أن ثلاثة أرباعها ليست محل ثقة يعتد بها؛ يذكر فان جنب أنه عندما لجأ هو نفسه إلى العديد من تلك الوثائق والدراسات الإثنوغرافية عن أستراليا، تبين له أن مصادر تلك المعلومات غير موثوق بها.
رفض فان جنب ما أورده «دوركايم» في «الأشكال الأولية للحياة الدينية» حول مفهوم أن الشعوب البدائية تعيش في مجتمعات بسيطة، وأن بدائية هذه الشعوب أمر نسبي، إن هذه المفاهيم برأى فان جنب على درجة كبيرة من الخطأ، رغم اتفاقه مع «دوركايم» حول طغيان الدين وتحوله إلى ظاهرة اجتماعية في المجتمعات التقليدية وذلك بالمقارنة مع الدور الأقل أهمية للدين في المجتمعات المتحضرة.
انتقد فان جنب «دوركايم» كذلك لتعميماته النظرية الواسعة، إذ أنه لم يعتقد بجدوى هذه التعميمات المتسرعة وغير الموضوعية، والأجدى برأيه عند الحاجة إلى إصدار مثل تلك التعميمات أن ينطلق الباحث من عدد من الحقائق الصلبة، ولعل هذا ما أراد أن يؤكده من خلال دراساته المتأخرة عن الفولكلور الفرنسي، أي من حيث أنه لم يسعَ إلى اصدار نظرية أنثروبولوجية عامة وعالمية مبنية على دراسة حقلية ميدانية في منطقة «سافوا»، أي بخلاف ما ذهب إليه «دوركايم»، برأيه، عندما نادى بنظريته حول الدين وذلك انطلاقاً من دراسة قبائل لا يتعدى حجم الواحدة منها خمسين فرداً.
ما هى ردود أفعال «دوركايم» تجاه انتقادات فان جنب لنظرياته وأعماله؟ كان تجاهل «دور كايم» مطلقاً لفان جنب، إذ أنه لم يأت على ذكر أو إشارة إلى أي من دراسات أو أعمال الأخير، فقد خلا عمل مثل «الأشكال الأولية للحياة الدينية» من أية إشارة إلى أعمال فان جنب مثل «الأساطير والخرفات في أستراليا» و«المحرمات والطوطمية في مدغشقر»، وهي من الأعمال التي كانت تتقاطع وعمل «دوركايم» المشار إليه، خاصة وأن عنوانه الفرعي كان «الأنساق الطوطمية في أستراليا»، وهي أعمالٌ قد صادف أن صدرت قبل قيام «دوركايم» بإصدار عمله بعدة سنوات.

تخوم الوطنية والقومية:

يجدر بنا قبل الانتقال لعرض عمل «طقوس العبور»، وهو من أبرز أعمال فان جنب الأنثروبولوجية تميزاً والتي عُرف بها في الأوساط الأنثروبولوجية، أن نشير إلى عدد من الدراسات التي عمل من خلالها إما على معالجة موضوعات جديدة، كما هو الحال في «أُطروحة مقارنة حول الوطنية» و«تكوين الخرفات»، أو على إعادة صياغة بعض الإطروحات والمفاهيم التي أصبح يتناولها في الدراسات المقارنة التي يقوم بها مثل «الطوطمية والمنهج المقارن» و«الديانات والأعراف والخرفات: مقالات في الإثنوغرافيا واللسانيات».
نشر فان جنب «أُطروحة مقارنة حول الوطنية» عام 1922م، ويعد هذا العمل واحداً من المؤلفات العديدة التي صدرت بعد الحرب العالمية الأولي والتي حاول من خلالها مؤلفوها التصدى للنتائج المترتبة عن الحروب والنزاعات المستمدة جذورها من مشكلات الدولة والوطن والوطنية والأمة والهوية الوطنية. كان فان جنب يريد معالجة هذه المشكلات والمفاهيم المصاحبة لها وفق منظور إثنولوجي، بعيداً عن التناول الحقوقي أو السياسي البحت كما كان يطالب به في مقدمة كتابه، بل كان يرى أنه بالامكان إخضاع الوطنية للدراسة العلمية الصارمة شأنها شأن الأساطير والطقوس ومنتجات الثقافة المادية، كما ينبغي إخضاع الحقائق المتعلقة بالوطنية لعمليات التصنيف بغية الوقوف على خصائص الجماعات وسماتها وخصائصها الجينية، وذلك من أجل التوصل لمعرفة العلاقات المتداخلة بين أطرافها.
حاول أن يشرح أطروحته من خلال هذا العمل على أساس معالجة ما كان يراه من لبس يعاني منه مفهومان هما «الوطنية» و«القومية»، وعمل على تقديم رؤيته من خلال نقد المفهوم المتداول الذي يستمد جذوره من اجتهادات الحقوقيين في القرن الثامن عشر. كان يرى بأن المقصود بــ «الوطنية» هو الشعور العاطفي بالوطنية، بينما «القومية» هي الخاصية المترتبة عن الوجود كافة. وأن الأمة كحقيقة تاريخية قد تسبق مفهوم القومية، أما بالنسبة لـ «الوطنية» فهي الرغبة في الوجود والعيش كأمة، وحسب هذا المفهوم لفان جنب فالوطنية هي عملية اجتماعية بالإمكان إخضاعها للمعالجة الأنثروبولوجية شأنها شأن الطوطمية.
يرى فان جنب، بالاضافة إلى ذلك، أن هناك قدراً من التشابة بين الوطنية والشعور الوطني، إلا أن الوطنية شأن مستقل عن الوطن كتنظيم، ذلك أن هناك أمماً تعيش دون امتلاكها للوطنية كحالة تعيشها اجتماعياًّ وثقافياًّ وسياسياًّ، كما قد توجد الوطنية كظاهرة دون أن ترافقها الأمة كتنظيم سياسي. هنا أخذ الوجود السياسي للوطنية، برأي فان جنب، يرتبط بالأرض والجغرافيا، أي بــ «المناطقية».
تعرض مفهوما فان جنب حول «الوطنية» و«القومية» لانتقادات وربما لإشكاليات عملية عندما شُرع في استخدامه لفهم خصائص جماعات قومية ووطنية في أوروبا، مثل: اليهود والغجر، خاصة في ضوء العلاقة بين الوطنية والقومية، من جهة، والإقليم أو المنطقة الجغرافية من جهة أخرى، لذا أُخذ على فان جنب لجوءه إلى استخدامات مطاطة عند التعامل مع تلك المفاهيم.
حاول فان جنب في جوانب متفرقة من «أُطروحة مقارنة حول الوطنية»، معالجة علاقة المعتقدات والرمزية واللغة بتشكل الجماعات وهوايتها الوطنية والقومية، خاصة في ضوء دراساته للطقوس والمعتقدات بين الشعوب التقليدية والحضارية في أوروبا، وأوضح ان هناك لجوءاً كبيراً إلى الطوطمية والرمزية، والى استخدامات الوشم وبعض العلامات على الجسد ما يجعل الجماعة المحددة مميزة عن الأخرى. وذلك ما ينطبق على علاقة نوع معين من الطعام أو الملابس والسكن أو التنظيم الاجتماعي للقرية بجماعة محددة. في مجال آخر سعي فان جنب إلى تطبيق مفهومه الأنثروبولوجي للرمزية على مفهوم الحدود أو التخوم التي تحاول الجماعة اللجوء إليه في تعاملها مع الجماعات الأخرى، وما يترتب عليه من إثارة قدر من التساؤلات التوظيفات المادية مثل الأنهر والجبال والوديان والبحار وغيرها كرموز وعلامات على أرض الواقع، ومثيالاتها في الخرائط، لتثبيت المدى الذي تنتشر في نطاقه الرموز الثقافية لتلك الجماعة الوطنية أو القومية.

سجال الأساطير والخرفات:

تناول فان جنب في مقالة مطولة نشرت بعد عام 1908م، «الطوطمية والمنهج المقارن»، أي بعد مرور عامين على صدور كتابه «الأساطير والمحرمات في أستراليا» بعضاً من سجالاته الفكرية مع الباحثين والنقاد. نشر فان جنب هذه المقالة في «مجلة تاريخ الأديان»، وكانت بمثابة مقالة نقدية تهدف للرد على عدد من الباحثين ممن تناولوا الطوطمية والمحرمات في الديانة المصرية القديمة وكذلك الرومانية، كما كان يهدف من ورائها إلى إيضاح الفرق بين المنهج المقارن والتاريخي في دراسة الطواطم والمحرمات. يوضح فان جنب أن باحثاً مثل «رينيل» لم يسعَ إلى تعريف المقصود بالطوطمية، وعليه فإنه لابد من تحري الدقة عند استخدام مفاهيم مثل: القبيلة، والعشيرة، والعائلة، وعلاقتها بمفاهيم أخرى مثل الطوطمية والمحرمات. حاول فان جنب في هذا الصدد أن يضع عدداً من المبادىء العامة التي تعمل في ضوئها الطوطمية، على الرغم من أن عدداً آخر من النقاد وجدوا أن تلك المبادىء لا تنطبق على مختلف الحالات والظروف التي تنشأ وتعمل في ضوئها الطوطمية، كما اختلفوا معه حول التعبير عن المعتقدات والحياة الدينية عبر طقوس وشعائر إيجابية الطابع، إذ لاحظوا ندرة مثل تلك الطقوس والشعائر الإيجابية، بل إعدامها بين قبائل جنوب شرق أستراليا وشمال أمريكا.
أعاد فان جنب نشر بعض من مقالاته ومراجعاته التي سبق نشرها في السنوات القليلة الأولي من القرن العشرين في عمل آخر عُرف بـ «الديانات والأعراف والخرافات: مقالات في الإثنوغرافيا واللسانيات». أراد أن تشكل تلك الموضوعات الأنثروبولوجية واللسانية مصدراً لاهتمامات طلاب الأنثروبولوجيا والفولكلور، تناول من خلال هذا الكتاب ميادين مثل: المحرمات، وطقوس العبور، والطوطمية، والمسيحية والبوذية ، وهجرة الأعراق وتأثرها بالمناخ، وحكايات القديسين، وظهور جماعة تقديس العذرية.
أظهر فان جنب من خلال مقالاته ومراجعاته أهمية مساهمات ونظريات: «جيمس فريزر» و«جون لانغ» و«هارت لاند» و«رايد وي». في إحدى المقالات المنشورة في هذا العمل، عالج فان جنب الوجود الجرماني خلال فترة عصر النهضة في إيطاليا، مؤكداً على أن الجانب الأبرز في ذلك العصر يعود إلى تأثيرات الثقافة الجرمانية، التي حملتها فئات نخبوية تنتمي إلى العرق الجديد الآتي من شمال إيطاليا. إن نهضة ذلك العصر برأية لا تعود إلى الجماهير العامة، أو العوام في إيطاليا. من الجلي هنا أن فان جنب كان يقوم بمحاكاة نظريات أخرى حول الأسباب والجهود الحقيقية التي تقف وراء بروز الحضارة اليونانية.
كما تناول فان جنب عبر مقالتان في هذا الكتاب الجذور الجنوسية للنحو في قواعد اللغة، وهي من الاجتهادات التي جلبت معها سجالات عديدة. كما عرض عبر إحدى مقالاته الحالة الراهنة آنذاك للدراسات الأنثروبولوجية والإثنوغرافية في مناطق متفرقة من العالم المتحضر.
أما الكتاب الآخر الذي أصدره فان جنب خلال هذه الفترة فكان «تكوين الخرفات»، كان يهدف من ورائه إلى إيضاح المقصود بالأسطورة والحكاية، والخرافة وغيرها، وعن العلاقة بين هذه الأنواع والسرديات الشعبية. كما عمل على جلاء مكانة الخرافات في حياة المجتمعات، وإلى إيضاح الصلات القائمة بينها وبين النشاطات الاجتماعية. عمل أيضاً على إظهار أهمية التوثيق للخرافات في مجالات مثل: الإثنوغرافيا والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس.
أبدى فان جنب اهتماماً في هذا العمل بجوانب أخرى تتعلق بالخرافات، مثل القوانين التي تتحكم بإنتاج الخرافات، وتشكلها وانتقالها وتحويرها. كما حاول أن يظهر أهمية الخرافة في الأعمال الأدبية بصفة عامة، وأهمية الفرد في ظهور الخرافة مقارنة بالعناصر الجماعية. كانت فرصة مواتية لفان جنب أن يظهر، عبر تناوله للخرافة في المجتمعات البدائية، دور الفرد في تلك المجتمعات، خاصة في انتاج الوعي الجمعي.

«طقوس العبور»:

ننتقل الآن إلى استعراض ومعالجة عمل فان جنب الأبرز، ألا وهو «طقوس العبور»، فعلى الرغم من ظروف العزلة التي كان يعيشها فان جنب وفي ظل التقدم والانتعاش الذي كانت تعيشه مدرسة «الحوليات الاجتماعية» ورائدها «إميل دوركايم» في فرنسا وأوروبا، والتجاهل المطبق الذي مورس بحقه من قبل أقطاب المدرسة، إلا أنه واصل نشر أعماله، هذا النشر الذي امتاز بالجدية والغزارة، وكان من بينها عمله البارز «طقوس العبور». استطاع فان جنب من خلال «طقوس العبور» أن يجعل ما هو اعتياديٌّ في دورة الحياة التي يعيشها الفرد، سواء في المجتمعات البدائية أو المتقدمة، أمراً جديراً بالتوقف أمامه بل والالتفات إلى ما هو عام وكوني عند انتقال الفرد من مرحلة إلى أخرى في حياته. أحدث «طقوس العبور» صدى كبيراً بين عدد من الباحثين في علوم اجتماعية وإنسانية متفرقة، باستثناء الأوساط الأنثروبولوجية في فرنسا والعالم الأنجلوساكسوني التي تجاهلت هذا العمل الهام، إذ لم تتم ترجمة ونشر هذا العمل بالإنجليزية إلا في عام 1960م.
يرى بعض مؤرخي الفكر الأنثروبولوجي أن فان جنب قد استفاد في عمله هذا من أطروحات معاصرين آخرين له في الأوساط الفرنسية الأنثروبولوجية، مثل «مارسيل موس» و«هنري هوبرت» حول «الأضحية»، خاصة حول الطقوس والحالة المصاحبة للتضحية عند انتقال الفرد من العالم الدنيوي إلى العالم المقدس ثم عودته للعالم الدنيوي. أن عمليات الانتقال تلك لا تتم برأيه إلا عبر تعرض الفرد لتجربة الإحساس بالخطر التي تجسدها في هذه الحالة تقديم الأضحية. أما في حالة «طقوس العبور»، فقد عمل فان جنب على دراسة محطات أساسية في حياة الإنسان، مثل: الولادة، والبلوغ، والزواج، والموت؛ وهي من المحطات التقليدية في حياة الإنسان، مهما كان المجتمع والثقافة التي ينتمي إليهما. وعليه فقد توصل إلى تيبولوجيا أطلق عليها المراحل الثلاث التي يمر فيها الفرد في حياته الاجتماعية، وهي في محصلتها النهائية عبارة عن عبور وانتقال من مرحلة إلى أخرى تصاحبها طقوس عبور معينة. وقد عَرف المرحلة الأولى بـ «الانفصال» والثانية بـ «التحول» والثالثة بـ «الاندماج»، وأن لكل مرحلة طقوس استهلالية خاصة بها تختلف باختلاف الثقافات والمجتمعات، وقد تختلف أهمية احدى المراحل باختلاف الثقافة والمجتمع، إلا أن البنية الرمزية لطقوس العبور تعد واحدة، أي من حيث ارتكازها على التمايز بين العالم الدنيوي والعالم المقدس.
يبني فان جنب كذلك أُطروحته حول « طقوس العبور» على دراستهِ للعلاقة القائمة بين البنية الخاصة بطقوس العبور من جهة، والبناء الاجتماعي الذي تنتمي إليه من جهة أخرى، إذ يقف هنا على تخوم التمايزات الاجتماعية المستمدة جذورها من الجنس والسن والتقسيم الديني والاقتصادي، أما التقسيم الاجتماعي الأهم برأيه فهو ذلك المبني على أساس الجنس، ذلك أن هذا التقسيم برأيه أبديٌّ بطبعة. فما أن يتم أشهار أن أمرأة ما قد أصبحت راشدة من الناحية البيولوجية والاجتماعية، حتى يتم الإفصاح عن اختلاف حقيقي من خلال طقوس عبور معينة وذلك بمناسبة انتقالها إلى عالم النساء الراشدين، وما يصاحب ذلك الانتقال من تغير في الملابس والزينة وتسريحة الشعر. لا يتوقف فان جنب عند حالة واحدة من مراحل العبور والانتقال في الحياة، بل يتناول مراحل متفرقة تبدأ من المهد وتنتهي إلى اللحد، مروراً بكل مراحل الحياة بل ومراتبها، وعبر كل فصول السنة.
لم يكن فان جنب معنياًّ بالعمليات الفسيولوجية المصاحبة لعملية العبور أو الانتقال، ولكن بالتغيرات التي تطرأ على الوضع الاجتماعي، ذلك أنه على الرغم من وجود ارتباط بين كلتا الحالتين، فإنه ليس بالضروري أن يتزامن البلوغ الاجتماعي مع نظيره الفيسولوجي، أو كأن يتزامن الموت الاجتماعي مع الموت الفسيولوجي، وبرأي فإن جنب فأن أنثروبولوجيين آخرين مثل «إدوارد تايلور» و«جيمس فريزر» قد قاموا بدراسة الطقوس المصاحبة لحالات العبور والانتقال، كما في الولادة والبلوغ والزواج والموت وغيره، ولكنهم قاموا بذلك بمعزل عن الكشف عن العلاقة بين كل مرحلة وأخرى وعن الحالة الكلية لعمليات العبور والانتقال. إن فضل فان جنب يتضح هنا في كشفه عن المعاني الرمزية المصاحبة لعمليات الانتقال، وعن إماطة اللثام عن المراحل الثلاث التي يمر بها الفرد أو الجماعة عند الانتقال من وضع إلى آخر، حيث يتم في المرحلة الأولى الانفصال عن الالتصاق الاجتماعي، ثم الانتقال لمرحلة الانعزال، ليعاد في المرحلة الأخيرة أو الثالثة الاندماج في العالم الاجتماعي الجديد أو إعادة الاندماج في العالم القديم.
يُظهر لنا «طقوس العبور» المدى الذي ابتعد فان جنب عن «الدوركايمية» سواء فيما يتعلق بنظريتها حول الدين أو الوظيفة الاجتماعية، كان فان جنييب في هذا العمل أقرب إلى التحليل السلوكي الواقعي المنفصل عن التحليل الفلسفي. إن قبوله للتمايز القائم بين ثنائية المقدس والدنيوي قد وفر له الإطار المناسب للقيام بتصنيف الأنماط النظرية والسلوكية الدينية، خاصة أنه وجد أهمية التوقف أمام حالة أو محطة «التحول» أو «الانتقال» في حياة الفرد والجماعة، أي بانتقال الفرد أو الجماعة من حالة إلى أخرى، وما يصاحب ذلك الانتقال من دلالات طقوسية وعلامات مقدسة.
لم يسعَ فان جنب، كما يتضح من خلال «طقوس العبور»، إلى التوقف كثيراً أمام مفاهيم مثل «المكانة» و«الدور» بينما أولى مفهوم «التحول» الشيء الكثير في ضوء خلفية الدين. كما عمل على التوقف أمام الدين وما يصاحبه من نظم اجتماعية وذلك باعتبارها نتاجاً لكل المجتمعات. قد يبدو فان جنب في هذا العمل غير معنيًّ بالتوصل إلى خلاصات معينه تخص التفاعل الوظيفي، كما لم يعنِه أيضاً التوصل إلى استنتاجات نظرية تفرض قسرياًّ على جوهر المعلومات الموظفة في نص الكتاب، لذا نراه يعرض تصنيفاً للدين منظوراً إليه باعتباره نظرية، وما السحر إلا تكنيكاً مصاحباً للدين. ولعل هذه الرؤية التي اتسم بها فان جنب في معالجته للمعلومات الواردة في كتابه، مثلما قام في الفصل الذي عالج من خلاله طقوس التعميد، في إيصال رؤيته النظرية لطقوس العبور، دون أن يكون للرؤية النظرية تفوقٌ قسريٌ على المادة المعلوماتية في المؤلف.
وفر مفهوم فان جنب لـ «طقوس العبور» أمام الأنثروبولوجيين المجال الرحب للوقوف على الأزمات الحياتية التي يمر بها الفرد عبر مراحل نموه البيولوجي والاجتماعي والنفسي، وكذلك الحال مع مراحل نمو الجماعة والدراما الاجتماعية التي تتعرض لها، فقد أكد على الجانب المادي للعبور باعتباره نموذجاً للطقوس والشعائر، وكذلك مفهوم «الوقوف بعتبة الشعور» الذي أمسك به «فيكتور تيرانر» وعمل على تطويره جنباً إلى جنب مع مفهوم «الجماعات المتحدة»، وقد نُظر هنا إلى وظيفة «طقوس العبور» من حيث أنها تجعل من انتقال الفرد والمجتمع من مرحلة إلى أخرى عبر تقويمٍ زمنيًّ. لقد أولى إهتماماً خاصاً بالحالة الانتقالية أو التحولية التي يتعرض لها الفرد أو الجماعة عند الانتقال من مرحلة إلى أخرى.
أضاف فان جنب إلى مفهومه لـ «طقوس العبور» مفهومين إضافيين، الأول يتعلق بأهمية «طقوس الاستهلال» والآخر حول «الدراما» المتعلقة بطقوس العبور، وأوضح كيف أن كل دورة طقوس تتكون من سيناريوهات دراماتيكية. لقد أظهر «طقوس العبور» الأصالة العلمية الأنثروبولوجية لفان جنب، حيث أسهم من خلاله في صياغة هذا المفهوم الذي سيستخدم بعد ذلك على نطاق واسع من قبل الأنثروبولوجيين، إلى درجة أنه أصبح اليوم جزءاً من التراث التقليدي للأنثروبولوجيا الاجتماعية.
لقد حاول فان جنب أن يتجاوز التحليل الوظيفي الظاهر لمراحل طقوس العبور، وذلك باتجاه العمل على تفسيرها وبالتالي إظهار أهميتها في تأويل الطبيعة المتواصلة للحياة. كان يرى أن طقوس العبور بما تمتلكه من أهمية على مستوى التصويرات الرمزية للموت وإعادة البعث، لذا فأن دورها ليعتبر في غاية الأهمية على مستوى إعادة التجديد والبعث اللتان يحتاجها أي مجتمع. كما عمل فان جينب على إستبعاد أي مبدأ للعودة إلى المقولات «القبلية» كوحدات للتصنيف، بل لجأ إلى إستخلاص تلك الوحدات من بيئة تلك الطقوس ذاتها، الأمر الذي مكنه بعد ذلك من تمييز المراحل الثلاث لطقوس العبور، آخذاًً متغيرات الزمان والمكان بعين الاعتبار.
من المؤكد أن النموذج التحليلي لنظرية فان جنب حول «طقوس العبور» كان بنيوياًّ في طبيعته، خاصة عند إشارته لطبيعة الطقوس المصاحبة للعبور في كل المجتمعات التي تمتاز بامتلاكها البنية ذات التعاقب الثلاثي؛ خصوصاً عند مقارنة ذلك مع تفسير «دوركايم» للطقوس، حيث أعطى البعد البنيوي والعملياتي أهمية في تحليله، وذلك على حساب البعد الديناميكي الذي إمتاز بكونه ضيئلاً جداًّ في تحليله، وبالأخص عند مقارنته بمنظور ونموذج فان جنب التحليلي. استطاع فان جنب أيضاً من خلال «طقوس العبور» أن يلفت الأنظار إلى وجود انتشار واسع لبنية رمزية عامة في مجال الاحتفال بطقوس العبور، تُذكر بانتقال الفرد أو مجموعة من الأفراد من وضع اجتماعي إلى آخر، أما دور الطقوس المصاحبة لعمليات العبور فهو تقليل الآثار السلبية للاضطراب الاجتماعي المصاحب لها، وتحقيق قدر من التوازن الذاتي والاجتماعي.

ما بعد «طقوس العبور»:

لقد تناول أنثروبولوجيون فرنسيون آخرون مثل «روبرت هيرتز» و«فوستيل كولينز» البنية الرمزية لــ «طقوس العبور»، إلا أن الفضل يعود لفان جنب لتناوله العميق والمستفيض لهذا المفهوم، وإلى تطبيقه البارع بارع للمنهج المقارن الذي تمكن من خلاله من الوقوف على تنوع مضمون الشعائر المصاحبة لطقوس العبور فقط، بل البنى المشتركة. أصبح الاهتمام بفان جنب وأعماله كبيراً في أوروبا وأمريكا وخصوصاً بين المختصين بالأنثروبولوجيا الرمزية، خاصة بعد ترجمة «طقوس العبور» إلى الانجليزية عام 1960م. كما أبدى أنثروبولوجيون بارزون مثل «فيكتور تيرنر» و«ماري دوغلاس» اهتماماً بالغاً بمفهوم فان جنب لــ «الوقوف بعتبة الشعور» في عمليات الشعائر المتعلقة بــ «طقوس العبور»، وعلى الأخص دور هذا المفهوم في فهم القوة والخطر الكامنين في تلك الشعائر، وعن السر وراء احتفاظهما بتلك القوة المميزة.
وعلى الرغم من كل ذلك، لم يحقق «طقوس العبور» بصفته عملاً أنثروبولوجياًّ هاماًّ الصيت والانتشار المتوقع، وبالرغم من ذلك واصل فان جنب أعماله الحقلية من جهة والتأليف والنشر من جهة أخرى، ذلك أن هذه الظروف المحبطة لم تصده عن مواصلة تنفيذ مشاريع أعماله الحقلية الإثنوغرافية، أو نشر دراساته في مجال الأنثروبولوجيا والفولكلور. حري بنا في هذه المرحلة من المقالة أن نعلم الظروف المعيشية الصعبة التي كان يمر بها من أجل إعالة نفسه وأسرته. فبسبب ظروف عزلته عن المؤسسات الأكاديمية، عمل فان جنب لإعاله نفسه وأسرته في وظائف متفرقة، فقد عمل رئيساً لقسم الترجمة في وزارة الزراعة حتى عام 1908م، ثم تنقل في وظائف متفرقة، كان من بينها إلقاء محاضرات، وإنجاز ترجمات إلى اللغة الفرنسية، هذا في الوقت الذي كان يواصل نشر مقالته في الدورية الفرنسية المعروفة «مركيور الفرنسية»، خاصة في إقسامها المتعلقة بالإثنوغرافيا، والفولكلور، والدين، وما قبل التاريخ. أما في الفترة (1927-1933م) فقد عمل كمتعاون مع «معهد بالمان»، إذ نشر عدداً من المقالات في مجلة المعهد المعروفة «السيكولوجيا والحياة». استطاع فان جنب بفضل الدخل المتأتي من هذه الأعمال المتفرقة، أن يواصل أبحاثه وكتاباته الجادة وذلك من خلال التركيز على مجالين، هما: الإثنولوجيا والفولكلور. كانت أعماله الأولى خليطاً من الأثنين، أما أعماله المتأخرة فقد تركزت على الفولكلور، ولعل من نماذج أعماله الأولى أُطروحته للدكتواره «الوضع الراهن لمشكلة الطوطمية»، والأخرى المكملة لها، إذ نُشرت الأولى عام 1904م بعنوان «المحرمات والطوطمية في مدغشقر» والثانية «الأساطير والخرفات في أستراليا» في عام 1906م.
أتيح لفان جنب القيام بعمل حقلي إثنوغرافي في الجزائر، كانت الفترة الأولى لمدة شهرين، حيث امتدت خلال شهري يوليو ـ أغسطس 1911م، أما الثانية فكانت لمدة ثلاثة شهور من أبريل حتى يونيو 1912م. لقد تركت تلك التجربة الحقلية تأثيراً كبيراً على أعماله اللاحقة، مثلما ترتب عنها نشره لعدد من الدراسات المتعلقة بتلك التجربة، كان من بينها ما نشره في «مجلة الإثنوغرافيا والسوسيولوجيا»، على أن رغبته في القيام بدراسة إثنوغرافية تفصيلية قد اصطدمت بخيبة أمله لما تعانيه المرأة الجزائرية من ظروف العزل الاجتماعي، رغم ما تلعبه حسب رأيه من دور في صناعة الفخار وأعمال النسيج والعلاج الشعبي. وبالرغم من عدم قبوله لهذه القيم الثقافية المجحفة بحق المرأة، سعى فان جنب إلى مواصلة تجربته في العمل الحقلي في منطقة القصبة في الجزائر، خاصة بين أوساط الحرفيين الجزائريين. لقد لعبت هذه التجربة المبكرة، على حد قوله، دوراً بعد ذلك في تجاربه الإثنوغرافية في مناطق متفرقة من فرنسا وكذلك في أعماله ومؤلفاته الإثنولوجية والفولكلورية، خصوصاً عمله المعروف «طقوس العبور»، الذي أراد أن يدلل من خلاله على أن كل تغير للمكان وللظرف الاجتماعي لا بد أن يصاحبه طقوس عبور معينة، وأن هذه الحالة تتكرر في كل بقاع العالم وحضاراته، من أكثرها بدائية إلى أكثرها تحضراً وتعقيداً.

تقاطعات الفولكلور والأنثروبولوجيا:

كانت تجارب فان جنب الحقلية لدراسة الفولكلور والثقافة الشعبية في مناطق متفرقة من إقليم «سافوا» تهدف إلى إثبات نظريته حول طقوس العبور، وكان خياره للتركيز على الفولكلور في فرنسا سبباً للامتناع عن دراسة الفولكلور الأوروبي المقارن وكذلك الدراسات الإثنوغرافية والفولكلورية للثقافات غيرالأوروبية. كان خيار فان جنب الأخير يستمد جذوره من المنظور الأوروبي آنذاك للفرق بين الإثنولوجيا والفولكلور، إذ كان ينظر إلى الإثنوغرافيا باعتبارها دراسة للثقافات غير الأوروبية، بينما علم الفولكلور هو لدراسة الفلاحين والمجتمعات الفلاحية في أوروبا.
كان من نتاج هذه السنوات متابعة إصداره لسلسة من المجلدات عن الفولكلور الفرنسي، وقد عُرف هذا العمل باسم «المدخل إلى الفولكلور الفرنسي المعاصر»، وعلى الرغم من التجاهل والإهمال الذي صادفه فان جنب في أوساط المهتمين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية في فرنسا بسبب مناداته لتأسيس علم الفولكلور فإنَّ ذلك لم يصده عن إنجاز المجلدات التسعة من «المدخل إلى الفولكلور الفرنسي المعاصر». كان للتأثير والصدى الذي أحدثه هذا العمل الدور الكبير في تمكن فان جنب بعد ذلك من إكساب الدراسات الفولكورية المكانة اللائقة التي احتلتها بين الباحثين، الذين أكدوا على صواب رؤيته عندما نظر إلى الدراسات الفولكلورية بصفتها امتداداً للدراسات الإثنوغرافية المعنية بالمجتمعات الريفية في أوروبا، وهذا ما قد جرى تبنيه بعد ذلك من قبل الأجيال التالية من الباحثين الفرنسيين. ضَمَّن فان جنب المجلدات التسعة من «المدخل إلى الفولكلور الفرنسي المعاصر» قوائم ببليوغرافية مفصلة ومتنوعة عن الفولكلور الفرنسي، حسب الموضوعات وأخرى حسب الأقاليم والمناطق الجغرافية الفرنسية.
اشتمل هذا العمل على موضوعات من الفولكلور الفرنسي ذات الصلة بالاحتفالات الأسرية، وطقوس العبور المتعلقة بالولادة، والتعميد الديني، والطفولة المبكرة والمتأخرة، والمراهقه، والبلوغ، والزواج، وطقوس دفن الموتى، والاحتفالات السنوية للقديسين. كما تضمنت المجلدات النصوص الفولكلورية للاحتفالات وللطقوس المصاحبة لزراعة وحصاد الذرة في الريف الفرنسي، بالإضافة إلى الطقوس المصاحبة للانتقال الموسمي للرعاة من القرى إلى المراعي في الجبال، وكذلك الطقوس والمعتقدات المتعلقة بالإيمان بالقديسين الذين تتم مناجاتهم لحماية الماشية والقطعان. تضمن مثلاً الجزء السابع من المجلد الأول الطقوس المصاحبة لأعياد الميلاد في الأقاليم الفرنسية، خاصة الأيام الإثني عشر لعيد الميلاد.
شكل «المدخل إلى الفولكلور الفرنسي المعاصر»، مرجعاً للقارىء العام والمتخصص، إذ كان نتاج عمل حقلي توثيقي للجوانب الفولكلورية في المدن والقرى الفرنسية. كان فان جنب قد سعى في جميع أعماله إلى جمع حقلي الأنثروبولوجيا والفولكلور، بالرغم من أنه كان يُنظر إليهما في أوروبا باعتبارهما علمين منفصلين. ففي أعماله الأنثروبولوجية تمكن من استحضار المعرفة الفولكلورية، مثلما جعل من الفولكلور وصفاً شاملاً لمجتمعات معاصرة، أي نتاجاً إثنوغرافياًّ.

الخاتمة:

لقد أكد عدد من الباحثين المتتبعين لمسيرة فان جنب وأعماله، على أن العزلة التي عاشها بعيداً عن العمل في أي مؤسسة أكاديمية لم تكن في الواقع خياراً حراًّ من جانبه، هذا ما يورده الأنثروبولوجي البريطاني، «رودني نيدم»، في مقدمته للترجمة الإنجليزية لــعمل فان جنب الساخر «أشباه الباحثين»، وكذلك «نيكول بالمون» في مؤلفها «أرنولد فان جنب: مؤسس الإثنوغرافيا الفرنسية»، إذ تكشف «بالمون» لنا مثلاً أن فان جنب قد تقدم لكرسي الأستاذية الخاص بالإثنوغرافيا وتاريخ الأديان في «الكولج دو فرانس»، وقد أعد طلباً تضمن لائحة تفصيلية بما نشره من أبحاث ودراسات ومراجعات في مجال الإثنوغرافيا والإثنولوجيا الفرنسية، وبالنظر لعدم قبوله اتجه عام 1912م للعمل أستاذاً للإثنوغرافيا في «جامعة نوشاتل» في سويسرا. لقد واصل عمله في هذه الجامعة إلى أن تم إبعاده من سويسرا بسبب مواقفه المناهضة للنفوذ الألماني الذي كان يراه متعارضاً مع سياسة سويسرا الحيادية. وكان فان جنب قد أعلن أيضاً تأييده للفرنسيين لطبيعتهم الفردية في مقابل إدانته الألمان لاتجهاتهم العسكرية، معرباً دائماً عن تأييده لحرية التفكير وعن اعتقاده بأهمية الفرد. وعليه ضحى فان جنب بالعمل الأكاديمي الوحيد الذي تقلده في حياته.
يقول أحد أصدقاء وزملاء فان جنب، وهو الأنثروبولوجي الفرنسي المعروف «جورجس هنري ريفيه»: «إننا نتذكر فان جنب بمشاعر ممزوزجة بالاعجاب، والألفة، والحب، ولكننا نقر أيضاً بشئ من العار بسبب عزله وتحجيمه إلى حالة متواضعة عليه القبول بها بالرغم من موهبته الذكية، إنه «ناسك بورغ لارين». شكلت سيرة فان جنب حيرة حقيقية لمؤرخي الحياة الفكرية والفلسفية في فرنسا لعدة سنوات، إذ كانت حياته من جهة مليئة بالنشاط البحثي والإنتاج العلمي الغزير المتصف بالحماسة والانقطاع المتواصل، هذا بالإضافة إلى دوره في تأسيس أربع دوريات علمية ورئاسة تحريرها. كما كان مديراً في عدد من المنظمات، إلا أن حياته الفكرية كانت تخلو من أى تجربة تدريس يعتد بها في أي من الأكاديميات الفرنسية المعروفة، هذا رغم أنه القى العديد من المحاضرات في جامعات كثيرة متفرقة. لقد ألقت هذه المقارنة بين حياته النشطة في مجال النشر والمشاركة في المنظمات، وبين غياب الاعتراف الأكاديمي في فرنسا بدوره ضلالاً من الحيرة على حياة فان جنب. يقول «رودني نيدم»: «لقد أبتعد، أو بالأحرى تم إبعاده، عن العالم الأكاديمي في باريس، حيث كان «أميل دوركايم» وأتباعه يقومون بتأسيس أختصاصٍ أكاديميًّ، كان من الممكن أن يكون مدعواًّ لتقديم مساهمته المتميزة فيه. هكذا كان يبدو الأمر للمراقب الخارجي، أو للمسافة الزمنية التي تفصلنا عن الحدث. إن هذا الأمر هو أحد أكثر الجوانب غموضاً في حياة فان جنب، وهي حيرة كافية وعلى قدر من الأهمية لكي يقوم تاريخ الأفكار بايضاحها». إن تجربة فان جنب الإثنوغرافية، جعلت بعض النقاد ومؤرخي المدرسة الأنثروبولوجية الفرنسية ينظرون إلى تجربته باعتبارها انعطافة العبور التي انتقل فيها العمل الحقلي الإثنوغرافي في فرنسا من الهواية إلى الاحترافية، وعليه فإن فان جنب يعتبر المؤسس الحديث للإثنوغرافيا في فرنسا.

الهوامش:

1- أرنولد فان جنب
van Gennep, Arnold (1873-1957)
2-Durkheim, E., The Elementary Forms of the Religious Life. [Les formes elementaires de la vie rligieuse: le systeme totemique en Australie, (1915) [1912].
3-van Gennep, A., “Ethngraphie, Folklore”. (Review of E. Durkheim’s, Les Frorms elementaires de la vie religieuse, (1913).

4-van Gennep, A., The Semi-Scholars, (1967), p. 4.
5-van Gennep, A., Tabou et totemisme a Madgascar, (1904).
van Gennep, A., Mythes et legendes d’Australie, (1906).
van Gennep, A., L’etat actuel du probleme totemique, (1920).

6-van Gennep, A., L’etat actuel du probleme totemique, (1920).
7-van Gennep, A., Les rites de passage, (1909).
8-van Gennep, A., L’etat actuel du probleme totemique, (1920), p. 43.
9-Ibid., p. 55.
10-Ibid., p. 352.
11-van Gennep, A., Mythes et legendes d’Australie, (1906).
12-van Gennep, A., L’etat actuel du probleme totemique, (1920), p. xxiv.

13-van Gennep, A., Le folklore, (1924), p. 24.
14-van Gennep, A., “Cotributions a la methodolgie du folklore”, (1934), p. 50-51.
15-Ibid., p. 52.
16-van Gennep, A., Le folklore, (1924), p. 24.
17-Durkheim, E., The Elementary Forms of the Religious Life. [Les formes elementaires de la vie rligieuse: le systeme totemique en Australie, (1915) [1912].
18-van Gennep, A., “Ethngraphie, Folklore”. (Review of E. Durkheim’s, Les Frorms elementaires de la vie religieuse, (1913), p. 389.
19-Ibid., p. 389.

20-Ibid., pp. 26-27.
واقع الحال أن هناك بعضاً من الاستثناءات من قبل أتباع المدرسة الدوركايمية السوسيولوجية المتجاهلة لــ «فان جنب» وأعماله واجتهاداته النظرية، نذكر مثلاً قيام «مارسيل موس» وأخرين بنشر بعض المراجعات لأعمال فان جنب في مجلة «حولية علم الاجتماع»، انظر:-21
Mauss, M., “Review of Arnold van Gennep’s Mythes et legndes d’Australie”, (1907).
Mauss, M., “Review of Arnold van Gennep’s Etueds d’ethnographie algerienne”, (1913).
Zarnowski, “Review of Arnold van Gennep’s Le Folklore”, (1924).
22- van Gennep, A., Traite comparatif des Nationalites, (1922).
van Gennep, A., La Formation de Legendes, (1910).
van Gennep, A., “Totemisme et Methode comparative”, (1908).
van Gennep, A., Religion, moeurs et legendes, essais d’ethnographie et de linguistique, (1909).

23-van Gennep, A., Religion, moeurs et legendes, essais d’ethnographie et de linguistique, (1909).
24-van Gennep, A., La Formation de Legendes, (1910).
25-van Gennep, A., Les rites de passage, (1909).
قام بترجمة الطبعة الفرنسية إلى الإنجليزية «ناونيكا فيزدون» و«غبرايل كافي»، مع مقدمة مطولة وهامة لـ «صلون كيمبول» ونشرتها دار نشر كيغن بول في لندن عام 1990م، انظر: -26
van Gennep, A., The Rite of Passage, (1960).
27- «الجماعات المتحدة/ Communitas».
28-«الوقوف بعتبة الشعور/Liminality»: وفق تعريف سيمور سميث، فإن المقصود «الوقوف بعتبة الشعور» هو التالي: «حسب نظرية «طقوس العبور» لفان جنب، وكذلك الدراسات الأنثروبولوجية للطقوس، يشار إلى أحد مراحل طقوس العبور بمرحلة «الوقوف على عتبة الشعور»، حيث ينظر إلى الشخص الذي جرى تكريسه باعتباره يقف في هذه المرحلة في حالة خاصة بمعزل عن المجتمع والحياة العادية، و هي مرحلة ينظر إليها باعتبارها مقدسة وخطيرة من الناحية الطقوسية حيث يتعرض فيها الفرد لافتقاد القداسة أو للتدنيس». راجع:
شارلوت سيمور سميث، موسوعة علم الإنسان: المفاهيم والمصطلحات، 1989، ص 743.
راجع في هذا الصدد تعريفاً آخراً تقدم به الكاتب المصري المعروف سامي خشبة لـمفهوم «الوقوف بعتبة الشعور»، حيث أطلق عليها « التوسط المرحلي»، أنظر:
سامي حشبة، مصطلحات الفكر الحديث، 2006، ص 251-253.

29-Parkin, P., “Durkheim and His Era”, (2005), p. 181.
30-van Gennep, A., The Rite of Passage, (1960).
31-Belmont, N., Arnold van Gennep: le createur de l’ethnographie francaise, (1974), p. 18.
32-van Gennep, A., Tabou et totemisme a Madgascar, (1904).
van Gennep, A., Mythes et legendes d’Australie, (1906).
33-van Gennep, A., En Algerie, (1914).
34- van Gennep, A., “Etudes d’ethnographie algerienne”, (1911).

35-قام الأنثروبولوجي الفرنسي «مارسل موس» بإجراء مراجعة لأحد الأعمال الإثنوغرافية لفان جنب عن الجزائر، وقام بنشرها في مجلة «الحوليات الاجتاعية» الفرنسية، انظر:
Mauss, M., “Review of Arnold van Gennep’s Etueds d’ethnographie algerienne”, (1913).
36-van Gennep, A., Le folklore du Dauphine (Isere), etude descriptive et comparee de psychologie populaire, (1932), p. 31.
37-Ibid., p. 31.

38-van Gennep, A., Manuel de folklore francais contemporain, (1937-1958).
39-van Gennep, A., The Semi-Scholars, (1967), p. xi.
Belmont, N., Arnold van Gennep: The Creator of French Ethnography, (1979), p. ii.
يعد مؤلف «أشباه الباحثين» من بين أعمال فان جنب المهمة، فقد اشتمل هذا العمل، الذي أصدره في أوج سنواته إنتاجاً على صعيد التأليف، على مجموعة من الحكايات الخيالية التي كانت تسخر من المؤسسة الأكايمية التي استُبعد منها.
40-van Gennep, A., Notice des titres et travaux scientifiques de M. A. van Gennep, (1911).
41-Belmont, N., Arnold van Gennep: The Creator of French Ethnography, (1979), p. ii.
42-van Gennep, K., Bibliogrphie des oeuvres d’Arnold van Gennep, (1964), p. 2.
43-Needham, R., “Introduction.” In van Gennep, The Semi-Scholars, (1967), p. xi.
44-Belmont, N., Arnold van Gennep: le createur de l’ethnographie francaise, (1974).

المراجع العربية:

سامي حشبة، مصطلحات الفكر الحديث، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006.
شارلوت سيمور سميث، موسوعة علم الإنسان: المفاهيم والمصطلحات، ترجمة علياء شكري وآخرين، المجلس الأعلى للثقافة، القاهره، 1989.

المراجع الأجنبية:

Belmont, Nicole. 1974. Arnold van Gennep: le createur de l’ethnographie francaise. Paris: Paynot.
1979. The Creator of French Ethnography. Chicago: University of Chicago Press.
Durkheim, Emile. 1915. The Elementary Forms of the Religious Life. [Les formes elementaires de la vie rligieuse: le systeme totemique en Australie, Paris, 1912]. New York: Macmillan.
Gennep, Arnold van. 1904. Tabou et totemisme a Madgascar. Paris: Leroux.
1906. Mythes et legendes d’Australie. Paris: Guilmoto.
1908. “Totemisme et Methode comparative”. Revue de l”Histoire des Religions. Paris: Lerous.
1909. Religion, moeurs et legendes, essais d’ethnographie et de linguistique. Vol. 2. Paris: Societe du Mercure de France.
1909. Les rites de passage. Paris: Emile Nourry.
1910. La Formation de Legendes. Paris: Ernest Flammarion.
1911. Notice des titres et travaux scientifiques de M. A. van Gennep. Paris: Charles Renaudie.
1911. “Etudes d’ethnographie algerienne”. Revue d’ethnographie et de sociologie. Vol. 2.
1913. “Ethngraphie, Folklore”. (Review of E. Durkheim’s, Les Forms elementaires de la vie religieuse. Paris: F. Alcan, 1912.) Mercure de France. 101, 374: 389-393.
1914. En Algerie. Paris: Mercure de France.
1915. Le genie de l’organisation. Paris: Payot.
1920. L’etat actuel du probleme totemique. Paris: Leroux.
1922. Traite comparatif des Nationalites. Paris: Payot.
1924. Le folklore. Paris: Libraire Stock.
1932. Le folklore du Dauphine ( Isere), etude descriptive et comparee de psychologie populaire. Paris: Libraire Orientale et Americaine. Vol. 1.
1934. “Contributions a la methodolgie du folklore”. Lares. 5,1:20-34.
1937-1958. Manuel de folklore francais contemporain. (9 Vol.) Paris: Picard.
1937. Manuel de folklore francais contemporain. (Questionnaires, provinces et pays, bibliogrpahie methodique.) Vol. 3. Paris: Edition Auguste Picard.
1934. Manuel de folklore francais contemporain. (Questionnaires, provinces et pays, bibliogrpahie methodique.) Vol. 1, No. 1. Paris: Edition Auguste Picard.
1951. Manuel de folklore francais contemporain. (Questionnaires, provinces et pays, bibliogrpahie methodique.) Vol. 1, No. 5. Paris: Edition Auguste Picard.
1958. Manuel de folklore francais contemporain. (Questionnaires, provinces et pays, bibliogrpahie methodique.) Vol. 1, No. 7. Paris: Edition Auguste Picard.
1960. The Rite of Passage. Translated from the French by Nonika B. Vizedon and Gabrielle L. Caffee, with Introduction by Solon T. Kimball. London: Routledge & Kegan Paul.
1967. The Semi-Scholars, translated and edited by Rondney Needham. [Les demi-savants, Paris, 1911]. London: Routledge and Kegan Paul.
Gennep, Ketty van. 1964. Bibliogrphie des oeuvres d’Arnold van Gennep. Paris: A. et Picard.
Mauss, Marcel. 1907. “Review of Arnold van Gennep’s Mythes et legndes d’Australie”. L’Annee Sociologique. 10:226-229.
1913. “Review of Arnold van Gennep’s Etueds d’ethnographie algerienne”. L’Annee Sociologique. 12:858.
Needham, Rodney. 1967. “Introduction.” In van Gennep, The Semi-Scholars, London: Routledge and Kegan Paul.
Parkin, Robert 2005. “Durkheim and His Era”. In Barth, F. and Others. One Discipline, Four Ways: British, German, French, and American Anthropology. Chicago:
University of Chicago Press.
Rogers, Susan Carol. 2001. “French Anthropology”. Annual Review of Anthropology. 30, 481-504.
Senn, H. A. 1974. “Arnold van Gennep: Structuralist and Apologist for the Study of Folklore in France”. Folklore. 85,4:229-243.
Zumwalt, Rosemary. 1978. The Enigma of Arnold van Gennep (1873-1957): Master of French Folklore and Hermit of Bourg-la-Reine. M.A. Thesis in Folklore. Berkeley: University of California.
1982. “Arnold van Gennep: The Hermit of Bourg-la-Reine”. American Anthropologist. 84,2:299-313.
1988. The Enigma of Arnold van Gennep (1873-1957): Master of French Folklore and Hermit of Bourg-la-Reine. M.A. FF Communication, No. 241. Helsinki: Acadmiea Scientiarum Fennica.
Zarnowski. 1924. “Review of Arnold van Gennep’s Le Folklore”.
L’Annee Sociologique.

 

*الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم: شيخ الأنثروبولوجيين العرب من البحرين يمكن الإطلاع عبى سيرته وأعماله على الرابط التالي

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.