سرديات الأنثروبولوجيا

kafira

سرديات الأنثروبولوجيا

علي حسن الفواز – العراق

من الصعب جدا أن تكون الرواية ديواناً وافياً للحكي، أو حتى أن تكون بديلاً عن التاريخ، لكنْ يمكنها أنْ تكونَ مدونة مضادة للمركزيات التي حاولتْ فرضَ خطابها السياسي والثقافي والقومي على الجمهور، لذا بَدتْ خطورة الرواية وكأنها الضُرّة الأكثر شراسة لهذا التاريخ، ولتُعطي الروائي هامشا للتلصص على الوقائع والأحداث، وفرض المُتخيّل على وثائق السلطة وفقهائها وكُتّابها..
يشتغل علي بدر في منطقة هذه المدونة/ الضُرّة، وعند هامش مجالها التعبيري وتمثلاته الدلالية، على مستوى مواجهة الأحدوثات الرئيسة، وعلى مستوى ما يستدعيه النسق السردي من حفريات في مساحة النص/ الغابة، والنص/التاريخ، إذ يحمل لها الروائي فأس الحطّاب الأنثروبولوجي، وعُدّة الناقد المسكون بالشك، والقارئ الباحث عن الفكرة والمتعة، وهذا ما يجعل فعل السرد الأقرب إلى فعل المراودة، فهو لا يُعنى بالزمن والتاريخ والمكان بوصفها محددات قارّة وموجّهة للسياق الروائي، بقدر ما يُعنى بهاجس المغامرة، وما تثيره من تعرية وفضح، يمكن تشغيلها لصالح الحدس السردي، وتشكيل مسافة وعي فاضحة لرؤية سرائر ما جرى، واستشراف ما يمكن أنْ يجري، وبكل ما يمكن أن تنطوي عليه الكتابة السردية من استبصارات ثقافية للنسق المضمر في خطاب التاريخ، والوثيقة والحدث، والغامض والمهجور والمسكوت عنه في تاريخ صراعاتنا الاجتماعية والتاريخية والطائفية..
روايته الأخيرة «الكافرة» الصادرة عن منشورات المتوسط/ 2015 تؤسس لمشروع فكرة التعرّف على سيرورة العنف الجنسوي والهوياتي عبر سرديات الأنثربولوجي، ولمواجهة تمثلاته الدلالية التي تقف وراء صناعته عبر وهم سلطة التاريخ، وعبر تعرية (الأفكار الناجية) التي ظلت القوى المركزية تُسوّقها من خلال الحكايات الشفاهية والسير، وكذلك من خلال مدونات التاريخ والفقه والجماعة، وعبر السياسات الطاردة والمنتهِكة، والمتموضة داخل الهامش الجندري/ الجنوسي والطبقي والاجتماعي، وهو ما يعطي لهذه الرواية هاجسها في المفارقة والسخرية من التاريخ والسلطة، فهي رواية مكاشفة، وفضح، واستكناه لحمولات النسق الثقافي وحيله كما سماها عبد الله الغذامي.
الثيمة الحكائية في الرواية تقوم على مقطع من حياة امرأة (شرق أوسطية) أسمها فاطمة، تعيش مع عائلتها في مدينة نائية خاضعة لسيطرة الجماعات الجهادية، وبكل ما تعنيه هذه السيطرة من قسوة وتوحش ورهاب وعتمة. تعمل مع أمها في خدمتهم، يُقتل أبوها في عملية انتحارية، وزوجها الفاشل في وعيه وحياته، والعاطل عن العمل يبحث عن إشباعات مضاده لعجزه وفشله وهوسه الجنسي من خلال القيام بعملية انتحارية، وتحت غواية الوعد بحوريات الجنة..
هذه العتبة الحكائية هي المفصل الاول في الرواية، ومفتتح لمقاربة المفصل الثاني الذي تتكشف فيه مصائر الشخصيات، والمرجعيات المؤسِسة للعنف والانتهاك والإكراه على الهوية والجسد، وعبر ما يتبدى في مرجعيات الفكر الأصولي العنفي، تلك تُنمّط النظرة الدونية للمرأة/ ممثلة الهامش في الرواية، إذ يتم تزويجها بعد انتحار زوجها من أحد مسلحيهم، لكنها تمتنع، وتتفق مع المهربين لمساعدتها للجوء إلى أوروبا..
المفصل الثالث في الثيمة الحكائية للرواية يبدأ مع لحظة الهروب/الحرية، إذ تتعرض خلالها إلى عملية اغتصاب من مُهرّبها، وهي إضافة زائدة لتوسيع فعل التمرد والقسوة، والذي يصطنع له حافزا نفسيا لترسيم صورة الشخصية/ الضحية، وداعماً له في تشيكل ملامحها البنائية، بوصفها الشخصية الضد في السياق الحكائي، وفي اغتراب وعيها الضدي، والمفتوح على مغامرات لا تكشف إلاّ عن أحاسيس قهرية، متمردة ومازوجية، تبدأ من لحظة اكتشاف جسدها مع زوجها الانتحاري، ومع نزعها للحجاب بوصفه رداً وشروعا تعويضيا بدلالات جنسية للحرية أو العري، كما أن لحظة نزع اسمها- من فاطمة إلى صوفي- تتحول إلى شيفرة استبدال وجودي، بوصفها نزعا للهوية والتاريخ والعائلة، حتى تبدو دلالات الجسد والاسم وكأنها الصدمة التي تستكنه من خلالها الشخصية سرائر وجودها، وسيمياء علاقتها بالذات، وبالرجل، بوصفه رمزا جنسيا وتعويضيا، فهي تجد في نزع النقاب تمثلا عميقا لشغف وجودها، ولحريتها ولإشباعها الإيروسي والنفسي المضاد للسلطة، ولفكرة الذكورية القهرية.
هذه الضدية تحيل إلى مجموعة من الضديات الأخرى، التي تتجوهر حولها شعرية الرواية، عبر نقائض الشخصية وصراعاتها في المكان وتشظياته، وعبر ضدية الجسد ونقائضه الداخلية، فهذه الشخصية قد تكون أنموذجا صالحا لحياتنا العربية بكل رعبها وتوحشها، والجسد قد يكون أيضا هو المجال الذي تتشكل حوله تمثلات العجز والتعويض والقوة والتطهير، مثلما هو المكان الهامشي/ المكان النائي في القرية، يتحول عبر وظيفته السردية إلى مكان مركزي في المدينة/ بروكسل، والجسد الخاضع في العائلة والبيت الإمارة الإرهابية يتحول إلى جسد حر، فائر ومتمرد وصاخب. ومفهوم الطاعة المثيولوجية للفحولة والسلطة تتحول إلى إباحة جنسية ونفسية، والاسم/ فاطمة بسيمائيته الدينية يتحول إلى اسم مائع/ صوفي، له شهوة الاحتجاج وخفّة التعري اللغوي والرمزي، والتعري السلوكي. وشركة التنظيف بدلالتها الرمزية والواقعية، التي تعمل فيها فاطمة صباحا، تتحول ليلا إلى الحانة التي تسهر فيها صوفي. والجنس بمعناه (الزوجي) يتحول إلى نوع من (العهر) المتعالق بفكرة التمرد على إيهام ما تركه الزوج الفاشل والباحث عن وعد الحوريات، إذ يتحول رقم سبعين حورية التي ينشدها الزوج الانتحاري، إلى سبعين شابا وسيما تضاجعهم الشخصية الرئيسية في أوروبا…
هذه النقائض هي جوهر الصراع في الرواية، والمجال السردي الذي يُعطي لشخصياتها وعوالمها هامشا لاكتشاف المزيد من الفضح، والمزيد من المواجهة والتمرد..
المفصل الرابع في الرواية تتمثله علاقة فاطمة/ صوفي بـ(أدريان) إذ هو الشخصية الغامضة والملتبسة، لكنه يشابهها أيضا في اغتراب هويته، وفي تشوهه الداخلي، وفي البحث عن التطهير، فهو يعيش فوبيا تاريخ أبيه الذي قتل عدد من الفلسطينيين في مخيمهم في لبنان، تاركا طفلة صغيرة تُذكّره بالإثم والخطيئة، مثلما يعيش قلقه الشخصي مع عائلته وفي مهجره.
قصة الأب يعيش محنتها الابن أدريان، إذ يشاهد اعترافه بالجريمة من خلال فيلم وثائقي لمخرجة ألمانية، حيث تروي الفتاة أحداثها، وهو ما يدفعه للذهاب إلى بيروت ليحملها معه إلى السويد، والزواج منها، ولتنجب منه طفلة، لكنها تظل تعيش رعب الأب القاتل، وهو ما يدفع أدريان للهرب إلى بروكسل ليلتقي مع فاطمة/ صوفي في علاقة عاطفية مشوبة بالقلق والتعقيد، والفقدان، إذ تنتهي الرواية وصوفي وسط أوهامها بعيدا عن أدريان الذي هجرته عائدة إلى حياتها وعوالمها المتناقضة…
عبر هذه الرواية حاول علي بدر أن يتقصى أزمة الشخصية الشرق أوسطية، تلك التي قد تكون شخصية عراقية أو أفغانية أو سورية، والتي تعيش اغترابها وقلق وجودها إزاء سلسلة من الفقدانات- فقدان المكان، وفقدان الهوية والحرية والخصوصية، وهي لا تعني تمثلا إيهاميا لأنثربولوجيا الهيمنة الذكورية، بقدر ما تكشف عن هشاشة الوعي والشخصية والنظام والبيئة، والتي تفترض في المقابل هيمنة قوة النسق العصابي الذي تمثله الجماعة/ السلطة/ المقدس، بوصفها التاريخي أو القرابي أو حتى السياسي/ الأيديولوجي، والتي تفترض لخطابها نظاما سيميائيا تتبدى فيه سلسلة من الهيمنات الجنسية، ومرويات العنف الأبوي والمِلّوي، بكل علائقهما الأناسية واللسانية، والتي تمثل في جوهرها تبدّيا للسلطة الرمزية والواقعية، بتمثلاتها المعروفة – الأب المنتحر، الزوج العاطل والباحث عن الوعد، والأمير الحاكم على الجسد والمعنى، والمهرّب الانتهازي، والتي يمكن أن تكون صورة لفكرة الحزب الشرقي، والوطن الشرقي، والجماعة والأيديولوجيا الشرقية..
يمكن القول إن هذه الرواية تحيل إلى بطولة الهامش، وليس إلى مقاربة محددة لبطولة الجندر، مثلما هي إحالة إلى ضرورة قراءة أنثربولوجيا الفرد عبر قراءة سيرته في الوقائع، وسيرته في الخضوع والانتهاك، بوصفه الكائن/ الأنثى الهارب من السلطة إلى أفق السسيولوجيا، حيث مقاومة الجماعة والسلطة، وحيث وضع الجسد المنسي، بوصفه الوجود المخفي خلف أنساق المتعة واللذة والخوف والتابو، والواقف باستيهامية شائهة أمام لعبة الحضور والتدوين والمواجهة.

 

 

*علي حسن الفواز. كاتب عراقي

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.