مقاربات حول سؤال التثاقف (2 من 3)

مقاربات حول سؤال التثاقف: قراءة في واقع تحولات الريف اللبناني

دراسة بقلم: د. رامي ناصر

  1. الريف المتحول

لا شك أن الحرب اللبنانية ومفاعيلها كانت سببًا جوهريًا لتزايد حركتي النزوح والهجرة وبالتالي لتسارع حركة التثاقف المجتمعي في الأرياف اللبنانية. ولا شك أيضًا أن ظاهرة التحديث الاقتصادي التي نعيشها اليوم بوعي منا أو بدون وعي، ساهمت هي أيضًا في انتشار وذيوع نماذج هجينة. فنلاحظ تجمعات سكنية وعمرانية تحديثية الطابع، تشكل من الناحية المورفولوجية والوظيفية نماذج ثقافية وسطية تقع بين الريف والمدينة، تتطور داخل المجال الحيوي للأرياف الحاملة للمكونات والأنساق الثقافية التقليدية.

 

3-1 التحولات المورفولوجية

تتميز الأرياف اللبنانية بقدم التعمير، إذ نجد فيها مساكن يتجاوز عمرها حوالي قرن من الزمن. هذه المساكن ليست مجرد مبان وبيوت، إنما تعبر عن هوية ساكنيها وتختزن ذاكرتهم المكانية والزمانية،
وتشكل نموذجًا خصبًا للوقوف عن طبيعة ونوعية التحولات المورفولوجية التي مسّت السكن الريفي.

كانت غالبية القرى في الأرياف اللبنانية، حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، لاتزال تحتفظ بما يميّزها من تقليدية، كوجود الحارات العائلية غير المتباعدة، التي تتقاطع وتنفتح في ساحة الضيعة، وفرن التنور، والعين، والطاحونة، ومعصرة الزيتون والدبس، والبيدر، والمساكن الترابية القديمة.  لكن الريف شهد أثناء الحرب وبعدها، خاصة خلال السنوات الأخيرة، تحولات مورفولوجية عميقة ومتباينة، هي نتاج تفاعل الشكل مع الوظائف ونمط الإنتاج المتحوّل، والتي تمثّلت في تراجع السكن الريفي، وبروز أنماط جديدة من السكـن العصري، أي نمط العمران العمودي ذو الطوابق المتعدّدة، الذي أثّر على التقسيم العائلي للأحياء، من خلال ظهور الأحياء الجديدة المختلطة بين العائلات.

تراجع السكن القروي التقليدي لصالح أنواع أخرى عرفت تجديدًا معماريًا تجلّت في الطابع الحضري للتصميم ومواد البناء وكذلك التجهيزات العصرية، وقد تمثّل هذا التغير في المواد المستعملة في البناء سواء في الجدران أو في السقف، حيث نلاحظ أن عملية التشييد والبناء أصبحت تعتمد على الإسمنت وحجر الباطون المصنوع من الإسمنت.

إن تطور أشكال السكن في الأرياف لا يعكس فقط حجم وطبيعة التحولات المورفولوجية والمجالية لها، ولكن يسمح أيضًا بقراءة بعض مظاهر التراتبية السوسيومجالية التي أفرزتها تلك التحولات، خاصة عندما يتعلق الأمر بظهور أنماط من المساكن الراقية ومنازل فاخرة في حوزة فئات ميسورة معظمها من برجوازية المدينة والجالية المقيمة بالمهجر.

 

  3-2 التحولات الاقتصادية

لا شك أن تحول نمط الإنتاج يؤثر على نمط العمران وشكل المسكن، الذي يبرز من خلال تفاعل الفرد مع مجاله وطريقة استخدامه واستغلاله له.  كان العمل الزراعي هو الأساس الذي تقوم عليه الحياة الاقتصادية في الريف، حتى أواسط ستينيات القرن العشرين، فقد كان غالبية السكان يشتغلون بالزراعة ويتّكلون عليها في معاشهم. لذلك تعتبر علاقة القرويين بمجالهم الحيوي (الأرض الزراعية) من أهم العوامل التي تساعد على وصف حياتهم الاقتصادية وتحديد إطار العلاقات المتشكلة فيما بينهم.

نلاحظ أن التنقل الاجتماعي[1] الذي حدث خلال الحرب الأهلية وبعدها، والذي تزايدت معه حركة النزوح نحو المدن، أدى إلى تحول غالبية أفراد المجتمع الريفي، من أفراد تعتمد شريحة كبيرة منهم على الإنتاج الزراعي، إلى مجتمع يعتمد غالبية أفراده على العمل المهني والوظيفي.

فعلى الرغم من بقاء بعض مظاهر الزراعة وتربية الحيوان، التي لا تزال تحمل الكثير من مضامين نمط العيش القروي، نلاحظ شيوع مظاهر الفردانية[2]  individualismواستقلالية المعيش وفردية البعد البنائي، التي يعتبرها لويس ديمون من أبرز خصائص الحداثة المدينية.[3]

يبدو تفكك المظهر الجمعي للحياة الاقتصادية، الذي كان مرتبطًا بالتعاون العائلي/الأسروي في الإنتاج والاستهلاك واضحًا، لأن دوافع وغايات العمل اتجهت خارج حدود دائرة العلاقات القرابية ومصلحة العائلة. ونجد أن ظاهرة الفردانية تزداد وضوحًا، وخصوصًا كلما تقسّمت الأرض الزراعية وتوزّعت نتيجة لتطبيق نظام التوريث. “فالفردية في الاقتصاد تدعو إلى اتخاذ المصلحة الفردية أساسًا للأفعال، أي التعامل مع الملكية من منطق الربح والدخل، أكثر من كونه معطى إجتماعي يتجسد في العلاقات والصراعات والرموز والقيم المرتبطة بها”.[4]

إن دخول المكننة الزراعية حوّل العمل الزراعي إلى عمل تخصصي – مهني، فعلى الرغم من أنها اختصرت الكثير من الوقت، وقلَّلت من عناء العمل الزراعي والإعتماد على اليد العاملة، فقد نتج عنها بطالة العمالة التي كانت تمتهن العمل الزراعي.[5]

طال التحديث الزراعي أيضًا قانون العمل، مما فرض وجود إطار تعاوني ذو شكل قانوني ممأسس، يؤدي وظيفة التعاون العائلي، ويؤمن القدرة المادية لامتلاك التقنية، التي حلت مكان المجهود الحيواني المساهم بالزراعة، ويحدد الإطار الجماعي للإستفادة منها.

 

3-3 التحولات الاجتماعية

إن علائقية تأثير التحولات بين البنى المجتمعية، تجعل من الصعوبة الفصل بين دور الفرد الاقتصادي وبين دوره الاجتماعي، بالنظر لارتباط الخصائص الاقتصادية والاجتماعية في القريتين ارتباطًا وثيقًا.

وإذ تبرز مظاهر التحديث التقني التكنولوجي، لوسائل الاتصال والتواصل، باعتبارها أحد المكونات الحيوية التي تدفع وتشكل ثقافة الحداثة وما بعدها، وذلك بواقع دخولها الأسبق، والأسرع والأكثر انتشارًا وتأثيرًا.  فنجد أن حركتي النزوح والتثاقف المديني، ودخول مجال العمل المأجور لأبناء الريف في القطاعين العام والخاص، قد شكلت مجتمعة جملة من العوامل التغييرية الإضافية التي ساهمت بدورها في زيادة الانفتاح على ثقافة الآخر، وعلى التأثر بنماذجه التنظيمية والقيمية، وما تحمله هذه الأخيرة من أفكار وأساليب مدينية في المعيش اليومي، انعكست آثارها حكمًا على البنية التقليدية للأسرة الريفية ووظائفها.

ولما كانت الأسرة تشكل نواة البناء الاجتماعي في المجتمع الريفي، التي تتمحور حولها كافة العلاقات المجتمعية، وتنتظم فيها أدوار ووظائف أفرادها، من خلال العادات والتقاليد والقيم، نلاحظ أن هذه القيم ليست مقصورة على عائلة بعينها، لأنها سائدة في المجتمعات الريفية بأسرها. فنمط الحياة التقليدية الذي تمحور حول الحقل والبيت والعائلة ونظام القرابة، طبعت الريفي في علاقته ببيئته وجواره.

تمثلت أهم مظاهر التغيير في بنية الأسرة التقليدية في الأرياف، بغلبة الأسر النواتية على الأسر الممتدة، وانخفاض عدد أفرادها، وتضاؤل التميز بين الجنسين، وتبدل العلاقة مع كبار السن، الذين لم تعد مشورتهم وطاعتهم سلوكًا ملزمًا.

 

3-4 التحولات الثقافية

لقد أشرنا سابقًا إلى جدلية الارتباط التفاعلي العلائقي التأثير بين البنى المجتمعية.  يتجسّد مبدأ هذا الارتباط في انعكاس التحولات الاقتصادية والاجتماعية، على البنية الثقافية المرتبطة بها والمؤطرة لها، زوالًا لبعض العادات والتقاليد أو إعادة إنتاجها بأشكال مغايرة. و” تمثّل شعائر المرور Rites of passage (الميلاد – الزواج – الوفاة)، المسرح الذي يتم تكريسها من خلاله في نفوس أبناء المجتمع، لتصبح مع الوقت أنماطًا تمثل عرفًا وقانونًا اجتماعيًا مترسخًا.”[6]

 

1.4.3شعائر الولادة

من أهم العادات التي ارتبطت بعملية الحمل والولادة والتي تجدها تتشابه في الكثير من الأرياف:

  • اعتقاد الأم أن كل ما تنظر اليه أثناء فترة الولادة سيؤثر على هيئة الجنين، لذلك تتوخى النظر إلى الاشياء والوجوه الجميلة.
  • التوحّم عند الحامل، أي أن تأكل كل ما تشتهيه نفسها أثناء الحمل مهما ارتفع سعره وصعب الحصول عليه خوفًا من أن يؤثر ذلك على المولود الجديد.
  • التحضير للولادة عند حلول الشهر التاسع، واختيار الملابس واللوازم التي يحتاجها المولود. لكن الحامل لم تعد تقتني من الأقرباء الملابس القديمة، اعتقادًا بأن ذلك يطيل عمر المولود.
  • إعداد وتقديم المغلي لمدة أسبوع، بدل “تبيتة السبوع” وهي خليط من سبعة أنواع من الحبوب (القمح والذرة والارز والفول والحلبة والعدس والحمص أو الحبة السوداء).
  • لا يترك المولود لوحده طيلة سبعة أيام، وتوضع الكتب السماوية (القرآن، الإنجيل) بجانب سريره أو تحت المخدة، وجرت العادة، أن يوضع طبق يحتوي على القليل من الأرز والملح وقطعة خبز في بعض الأرياف.

كذلك يتبين لنا زوال بعض من هذه العادات والتقاليد، كعادة:

  • كشف الأغطية وفتح الأواني وفك العقد المربوطة وفتح النوافذ عند تأهب المرأة للولادة.
  • ربط الحبل السري (المشيمة) مع الخلاص ودفنهما أو إلقائهما في مجرى نهر، على اعتقاد أن ذلك يجلب السعادة للطفل.
  • دفن المشيمة تحت عتبة المنزل، وجعل المرأة تخطو فوقها ثلاث أو خمس أو سبع مرات، لتدخل روح المشيمة جسد المرأة مرّة أخرى، مما يساعدها على الانجاب بسهولة جديد.

2.4.3الزواج والعرس

نلاحظ أن انتشار ظاهرتي تأخر سن الزواج سواء بالنسبة للذكور والإناث، و”الزواج المتحول” الذي يسمح بحرية التعارف واختيار الشريك، طالت غالبية الأرياف اللبنانية، على الرغم من بقاء مظاهر الزواج التقليدي الذي يتولى فيه الأهل ترتيب كل خطوات الزواج، بدءًا من مسألة اختيار وانتقاء العروسان، إلى التحضير للفرح والعرس.

بغض النظر عن مدى التزام الأفراد بتقليد الزواج القرابي، فإن معايير اختيار الشريك لم تعد مقيّدة بمحدّدات الانتماء الطائفي والسياسي، والثروة، والنسب، والقرابة الجغرافية، إذ نلاحظ أن معايير أخرى باتت تؤثر به، مثل الجمال، مستوى التعلم، المهنة، الانسجام والمشاعر بين الشابين، وإن تفاوت تأثيرها باختلاف الافراد.

وإذ يرتبط العرس الذي هو نهاية المطاف في عمليّة الزواج، كغيره من شعائر المرور بتقاليد وأعراف غير مكتوبة تقنونه وتنظّمه، طالها التبدل والتغيير بدورها.

فزفّة العرس مثلًا، خرجت عن طابعها التقليدي، رغم المحافظة على التحدي بالشعر والتحدي بالسيف والترس والزغاريد و”القوالات”، وبقاء لباس الراقصين المؤلف من اللبادة والطرطور والتطريز على الشروال وعلى “الجيليه”[7] على تقليديته، فهي لم تعد تقتصر على مشاهد الرقص بالسيف والترس، وعلى موسيقى الطبل والمزمار و”حلقة الدبكة على وقع الهوّارة”. لقد تحولت لاستعراض فني مزيج من عدّة ثقافات، من الدبكة والرقص الشرقي، إلى الجاز أو التانغو([8])! والديسكو والسلو Slow، والروك أند رول، والسالسا، والرقص التعبيري أو الـ بريك دانس “Break dance”.

ويعتبر غالبية كبار السن الذين قابلناهم: أن الزفّة الفولكلورية اللبنانية الرائجة اليوم، هي أشبه بالاصطناعية، لم تعد فيها رهجة وتحدّي زفّة أيام زمان. ” لقد تحولت” على قول أحدهم: “إلى استعراض وحركات بهلوانية، من نفخ نار وبيارق، مخلوطة لا طعم لها ولا لون”، فلا هي تراثية ولا هي حديثة.

 

3.4.3 تقاليد الوفاة

إذا أصيب أحدهم بنكبة أو نائبة أو فقد أحد أفراد أسرته، اجتمعوا في بيته يعزّونه ويهونون عليه مصابه، بقولهم: “نشكر الله اللي ما هو أعظم” و“أشد الاوجاع الحاضرة” و“لا تكبر مصيبتك بتصغر”. تقاليد وعادات الوفاة التي بقيت كما هي:

  • إرسال رسول ينبئ بموت المنعى ووقت دفنه ويعم النعي ويعرف في اصطلاحهم بـ “تفريق المناعي”، ولا يزال هذا التقليد متبعًا، بخاصة إذا كان المتوفي ذو مركز اجتماعي أو اقتصادي مهم، ويتم التبليغ عن الوفاة في البلدة أو القرية بالمناداة من الجامع أو الكنيسة.
  • المناداة والعويل والندب فوق جثة المتوفي، إذ تجتمع النساء حوله ولا سيما “الندّابات” وقد يحلّ شعر النساء وتسود (وتشحر) وبأيديهن المناديل.

امتناع اهل الميت عن طبخ وإعداد الطعام في أيام المأتم، لا يزال من العادات الشائعة في الأرياف، فيدعى أهل الميت من الذكور لتناول الطعام عند الداعين من الأقرباء المباشرين، أو قد تحمل النساء إلى بيت المتوفى أطباقًا عليها أصناف المآكل والخبز وذلك يسمى “الحملان” او الحمل فتأكل النساء ومن يبقى في البيت من الأقارب.

تشكل هذه العادات والتقاليد صيرورة المجتمع، فهي تعبير حي عن التراث الرمزي الثقافي الذي تختزنه الذاكرة الجماعية في ماضيها. إنها نتاج تراكم وتلاقح مع ثقافات وافدة، تدخل في عملية إعادة تشكل وبناء حاضر الواجهة الثقافية وتعيد إنتاج حضورها، لذلك فإنه من الطبيعي أن تتمايز الأرياف بدينامية الحراك المجتمعي فيها، لا سيما بفعل اختلاف فعل التثاقف الداخلي والخارجي لكل منهما.




[يتبع]




المؤلف: د. رامي ناصر: باحث أنثروبولوجي من لبنان ، خبير في دراسة الواقع وإعداد خطط التنمية الإستراتيجية ، مسؤول فريق إعداد الخطط في وكالة التخطيط والتنمية – البقاع (لبنان) ، مشارك ومعد لأكثر من ورقة بحثية في الأنثروبولوجيا الثقافية وفي التاريخ الريفي ، مهتم بمواضيع التراث الشعبي والتراث الثقافي اللامادي .




الهوامش:

[1] يرتبط التنقل الاجتماعي بين الأجيال، بالعلاقات القائمة بين وضع الآباء ووضع الأولاد. ومن الممكن أن تظهر عدة أشكال من التنقل في المجتمعات ذات التراتب الاجتماعي المختلف، الذي تتكون فيه الطبقات حسب فئات محددة من زاوية سياسية ومن وجهة نظر اقتصادية في آن واحد. يتيح نزوح الأسر إلى المدينة، نشوء مستويات مختلفة من العلاقات بين الأفراد، فكلما زادت الصلات المتبادلة بين مجتمعي الريف والمدينة، يصبح التنقل والانتقال الاجتماعي أسهل وأسرع، لأن الحواجز القديمة لمجتمع الريف التقليدي والعائلة والجب، تضعف قدرتها على منع امتداد العلاقات في أي اتجاه. (فيريول، 2011، ص 121).

[2] غلبة مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة.

[3]  محمد سبيلا، وعبد السلام بنعبد العالي، دفاتر فلسفية، ص 12.

[4] George Zimmel,1992, le conflit, edition Circe Paris, , p 73.

[5] Philippe, Bonneford, l’Introduction de la motorization en agriculture traditionelle, cah O.R.S.T.O.M, vol 7 numero 4, 1970, p 22.

[6] The Durze, Robert Brenton Bretts, Yale university press, 1990, p 55.

[7]  الصدرية.

[8]  التنكو أو التانغو هو موسيقى شعبية من أميركا اللاتينية (الأرجنتين والباراغواي).

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.