متصورات وممارسات عنيفة – الجزء 3 من 3

violence

فصل من  كتابأنثروبولوجيا العنف والصراع

تأليف : بتينا أي. شميدت و أنغو دبليو شرودر

ترجمة : د. هناء خليف غني

حول ظاهرة العنف:

دعونا نعود لمناقشة أبعاد العنف وانعكاساته الثلاثة التي أسلفنا الحديث عنها بمزيد من التفصيل . ونود في هذا الجانب التأكيد على إمكانية دراسة العنف بوصفه حقيقةً اجتماعيةً من زوايا ثلاث هي: العنف الذي يُفهم على نطاقٍ ضيقٍ بوصفه شكلاً من أشكال العلاقات البينشخصية في الواقع الثقافي اليومي؛ والعنف بوصفه صراعاً، وأخيراً، العنف بوصفه حرباً.

وهكذا ، يُسهم التركيز على العنف في جذب انتباهنا إلى المستوى البين-شخصي للأذى الجسدي المشروع وجوانبه اليومية كما تتجسد في الواقع الاجتماعي وانعكاساته الثقافية. وطبقاً لهذه القراءة، فإن الغاية الرئيسة من ارتكاب الفعل العنيف تتلخص في ربطه باستراتيجيات الانغلاق الاجتماعي، وآليات تحديد “نحن–هم”، على نحو واضحٍ ودقيقٍ بوصفهما كيانات متعارضة. ومن المعتاد تنوع أشكال هذه الاستراتيجيات ومحتواها تنوعاً شديداً على وفق النمط الثقافي السائد والزمن والظروف العامة. وتساوقاً مع ذلك ، يصف الكتاب المشاركون في هذا المجلد ثلاث حالات نموذجية هي:

1-  احتمال تمثيل العنف عنصراً جوهرياً في ايديولوجية التعريف الذاتي التي تتبعها المجموعة. وهذا من شأنه خلق متخيل اجتماعي في مقابل متخيل لااجتماعي/خارجي. وقد أهتم آرنست هالبماير بهذا الجانب تحديداً في تحليله لأشكال التفاعل العنيف فضلاً عن القيمة الرمزية لأكل لحم البشر عند قبائل اليوكبا الفنزولية.

2-  حسبما بينَّ بتينا أي. شميدت في دراسته، تُسبغ القيمة الرمزية ذاتها على أكل لحم البشر في ظروف أخرى مختلفة تماماً؛ فصورة العنف المشروع ثقافياً والمُطعمة بكافة تفاصيل المخيلة الاستعمارية قد تمثل أداةً فاعلة في تحديد الخط الفاصل لا بين ’نحن‘ و’الآخر‘ فحسب، بل بين الحضارة والبربرية كذلك . وهذا المنظور معني بخاصية العنف التخيلية التي تخدم غرض التضمين أو الإقصاء الاجتماعي بصرف النظر عما اذا كان تمثيل العنف يعكس أفعال الإيذاء الجسدي أم لا.

3-  وعلى الرغم من ذلك، لا يمثل العنف قط محض تمرين في سياق الممارسة العملية، بل يمثل، بحسب دراسة شفاندنر سيفرز لاستعمالات العنف اليومية في البانيا المعاصرة، شكلاً من أشكال تحقيق المصالح المادية الفعلية. بيد أن ممارسة العنف في هذا البلد تحدث عادة عبر اللجوء إلى تراث ’العداء‘ الذي يعكس وفي الوقت نفسه يُعيد خلق نماذج السلوك الثقافية. وهذا التراث لا يتبع، ببساطة، منطق العقلانية الادواتية الفردي القصير الأمد (يرغم الدور المهم الذي لعبه ذلك في تنامي أهمية هذا التراث وتعزيز مكانته في العلاقات الاجتماعية في البانيا مؤخراً)، بل أنه يُنتج ايديولوجية المشروعية الخاصة به عن طريق توظيف متخيلات العالم الاجتماعي التقليدية .

وبالاستناد إلى ما ذُكر أعلاه، يبدو واضحاً للعيان ارتباط ديالكتيك الممارسة والتصور في هذا المنظور بفكرة العنف الذي أفاض رجز في الحديث عنها. أن فعل الإيذاء الجسدي يعكس مفهوم المشروعية المعني بالتعبير عن ايديولوجية العالم الاجتماعي وحدوده، وأنماط السلوك المختلفة الخاصة بالتشكيلات والجماعات المختلفة في عالمنا الحالي التي تسهم تاريخيتها (المتجسدة في “الثقافة” و “الأعراف” و”التقاليد”) في إضفاء المشروعية عليها.

وتسعى الدراسات المعنية بالعنف حالياً إلى تجاوز نطاق الاهتمام بعلاقات العنف اليومية ومشروعيته المنطقية لصالح البحث في الأسباب المؤدية إلى نشوء هذا النوع من السلوك. ويُعرف الصراع هنا بوصفه أما استراتيجية يلجأ إليها الناس بسبب تنافسهم على كمية جد محدودة من الموارد وأما بوصفه وسيلةً للتغلب على/أو التصدي لظروفٍ تُعدّ حاسمةً لبقاء المجموعة البشرية.

وفي ظل هذه الظروف، قد يغدو العنف فعلاً مناسباً، بوصفه إستراتيجية حيوية طويلة الأمد، لإدامة بقاء المجموعة بعامة وضمان استمرار المجتمع ككل في التكاثر اجتماعياً وجسدياً بخاصة. ويبدو واضحاً تأثر مقاربات جون آبنك وانغو بليو شرودر للعنف بمفاهيم التنافس والاستجابات التكيّفيَة الناتجة عنه. إذ وظف آبنك على سبيل المثال، مفاهيم استمدها من علم النفس التطوري في دراسته للحروب التي خاضتها قبيلة السوري (Suri)(ت) بغية تسليط الضوء على الدور الذي يضطلع به العنف بوصفه احدى استراتيجيات العلاقات الخارجية القائمة التي تسهم في تعزيز فرص بقاء المجموعة.

وفضلاً عن ذلك ، يوفر العنف إلى جانب المزايا طويلة الأمد، مزايا أخرى قصيرة أمثال المكاسب المادية والاعتراف الاجتماعي وتحقيق أهداف محددة ثقافياً (مثل الانتقام) الواقعة خارج نطاق المحفزات المادية. وهذه الأهداف ينبغي النظر إليها بوصفها تعبيراً عن تكيّف ثقافي طويل الأمد للواقع الاجتماعي الذي يتميز بوفرة العلاقات الاجتماعية التنافسية. غير أن هذه الأهداف ذاتها تميل إلى تطوير العقلانية الظرفية الخاصة بها مسهمةً بذلك في تعزيز عملية اختيار العنف بوصفه الوسيلة الأمثل لحل الصراع في مرحلة زمنية محددة. وهذا التداخل بين جوانب الصراع طويلة الأمد وقصيرتها فضلاً عن المعوقات البنائية الأخرى (مثل الكولونيالية-الحركة الاستعمارية) قد حظيّ باهتمام شرودر الذي سلط الضوء عليه في دراسته المعنية بقبائل الاباشي الغربية في القرن التاسع عشر.

وطبقاً لهذه الدراسات التحليلية، ثمة ظروف مادية وموضوعية تؤدي غالباً إلى التنافس بين المجموعات. إلا أن ممارسة العنف لا يعقب عملية التنافس آلياً فضلاً عن أنه ليس الخيار الوحيد المتوفر في هذه الظروف. وفي واقع الأمر، يلاحظ ميل الفواعل المتأثرين بمعايير التقييم والعقلانية المتجذرة ثقافياً إلى التفكير بالصراعات على هذا النحو. وهذه المتخيلات بمجملها تستكشف مساراً يقودها أما إلى العنف (وأما بعيداً عنه) تحديداً عن طريق ترجمة المسارات التاريخية للخبرة إلى القانون الأخلاقي للسلوك المناسب الذي يتوقع أن يسود في ظل ظروفٍ معينة .

وختاماً، يرى إلى الحرب بوصفها ظرفاً طويل الأمد من التفاعل العنيف بين مجموعتّي أفراد حاضرتين على نحو واضح ومرئي. أن دراسة العنف على وفق هذا المنظور تستلزم مناقشة الفكرة القائلة أن الحرب تمثل نتيجةً طبيعيةً متوقعةً لعملية تصعيد مدفوعة (جزئياً) بدينامية خاصة بها. وهذه الدينامية تميل إلى إعادة إنتاج العنف بوصفه فعلاً منفصلاً عن ظرف الصراع المادي ، مع ملاحظة حدوث ذلك على نحوٍ رئيسٍ عن طريق إعادة إنتاج ايديولوجيا العداوة. وعلى الرغم من إمكانية ملاحظة خصائص العلاقات العنيفة هذه في كافة مستويات التكامل الاجتماعي، تُعدّ الحرب بوصفها واقعاً اجتماعياً قائماً في ذاته (على نحو يميزه عن الواقع “المدني” اليومي) احدى خصائص العنف النموذجية في الدول الحديثة – سواء أحدث ذلك بين الدول ذات السيادة أم في الدول ذاتها. والدراسات في المجلد الحالي معنية بتسليط الضوء على ثلاث خصائص رئيسة مميزة لهذا النوع من أنواع العنف الشامل طويل الأمد والمشروع، وهي:

1-  قدرة الحرب على صنع التاريخ ودور الذاكرة في إعادة خلقها. وبهذا الصدد، أشارت فرانسيسكا دكليش، استناداً إلى تحليلها لروايات لاجئي الحرب في الصومال ؛ إلى التأثير الهائل الذي يمارسه العنف المنظم في حياة ضحاياه. كما اعتنت بتحليل السُبل التي تُوظف بوساطتها خبرات العنف هذه لتمثيل صور العنف في الذاكرة الاجتماعية .

2-  قدرة الحرب على تصعيد المواقف وتأزيمها أحياناً، وأحياناً أخرى حلحلتها مع ملاحظة حقيقة تطورها على وفق المسار التاريخي للأحداث. وهذا الجانب تحديداً قد حظيّ باهتمام بيتر كلوس الذي حلل الحرب الأهلية في سريلانكا. وكما هو معروف تاريخياً، فقد اتبعت هذه الحرب مساراً محدداً تميز بحضور نُقاط تحول حاسمة عدة حيث يؤدي كل حدث إلى مرحلة التصعيد التالية .

3-  قدرة الحرب على انشاء واقع اجتماعي مميز ومنفصل يميل إلى فرض أشكال العلاقات الاجتماعية الخاصة به على المجتمع. وحول ذلك ، تعرض افانا ماجك في دراستها ثلاثة أنماط رئيسة من أنماط الوجود الفردي في إثناء الحرب الأهلية التي نشبت في البوسنة. وفضلاً عن وجودها بمعزل عن الواقع اليومي المعاش في ظل ظروف السلام، يلاحظ على هذه الأنماط (المتمثلة بالجنود والفارين من الخدمة العسكرية والمدنيين) محاولتها فرض منطقها الحياتي الخاص المتأثر بالعنف على الناس كافة.

ومرة أخرى، تخبرنا هذه الأمثلة أن الحروب لا تقع على نحوٍ اعتباطي أو بمعزلٍ عن شبكة الظروف المعقدة القائمة، بل أن أفراداً بشريين ناشطين يرغبون في تحقيق مصالحهم الخاصة يتخذون قرار شنها ، ومن هؤلاء الناشطين أفراد النخبة الحاكمة الذين يتحكمون عادة بمقدرات الغالبية العظمى من السكان، وقد يجبرونهم على خوض غمارها. وتتولى هذه النخب إعادة إنتاج صور “الانغلاق” و”الآخرية”ج العنيفة بغية تهيئة ظروف القتال الفعلية على نحو يحقق مصالحها.

حول المقاربات النظرية: بعد إمعان النظر في بؤر الاهتمام الظاهراتية هذه، تبرز ثلاث مقاربات نظرية رئيسة للعنف عرضت لها المقدمة في الصفحتين الأولى والثانية . وهذه المقاربات هي :

1-  المقاربة الإجرائية/العملياتية التي تربط العنف بخصائص الطبيعة البشرية والعقلانية فضلاً عن ربطها بين مفاهيم التكيّف الاجتماعي العامة والظروف المادية . وهذه المقاربة تهتم على نحوٍ رئيسٍ بدراسة الفعل العنيف عن طريق مقارنة الظروف البنائية بوصفها مسببات تؤثر في ظروف تاريخية معينة. ومن أمثلة هذه المقاربة المنظور المادي الذي استعان به شرودر، وعلم النفس التطوري الذي لجأ إليه آبنك فضلاً عن نموذج صنع القرار الذي وظفه كلوس.

2-  المقاربة المعرفية وهي الأكثر شيوعاً في مجال تفسير العنف وكذلك الاشمل. إذ توظف دراسات المجلد الحالي جميعها هذه المقاربة، أو على الأقل جوانباً منها. وتصور هذه المقاربة العنف بوصفه فعلاً مبني ثقافياً في جوهره؛ وبكلمات أخرى ، بوصفه تمثيلاً للقيم الثقافية . ويمثل الجانب الأخير تحديداً عاملاً مهماً في تعليل السبب في الكفاءة التي يتمتع بها العنف في المستويين المنطقي والعملي. ولهذا يرى إلى العنف بوصفه فعلاً متوقفاً على المعنى الثقافي وأشكال تمثيله المختلفة، ولذا ينبغي مقاربته- أي العنف- بنوعٍ خاصٍ من الاهتمام بالخصوصية الاجتماعية والثقافية لسياقه التاريخي. وتناقش دراستا هالبماير وشفاندنر – سيفر أهمية توظيف المنهج الاثنوغرافي ودوره في تسليط الضوء على النماذج المعرفية للفواعل المنخرطين في المواجهات العنيفة. وفي السياق ذاته، يلاحظ اختيار شميدت مقاربة الخطاب الثقافي السائد حول العنف من منظور أدبي.

3-  وأخيراً ، تركز المقاربة التجريبية على خصائص العنف الذاتية. إذ تنظر هذه المقاربة للعنف بوصفه حدثاً لا يمكن فهم طبيعة تأثيره في الحياة أو تجسيده على نحوٍ مناسبٍ إلا عن طريق الخبرة الفردية. ويزاد على ذلك، تميز العنف بكونه متوقفاً، إلى حدٍ كبيرٍ، على الخصوصيات الفردية فضلاً عن أن معناه يتكشف على نحوٍ رئيسٍ عبر تصورات الفرد الإدراكية/ الحسية عن الموقف العنيف ذاته. وهذه المقاربة تبدو متناغمة مع ذلك النوع من الاثنوغرافيا ما بعد الحداثية الذي وظفه كل من دكليش وماجك في دراستيهما الراميتين إلى إلقاء مزيد من الضوء على الطبيعة المتجزئة والمتغيرة لخبرات العنف الفردية، وعلى الآليات التي تتعدد بوساطتها عوالم الحرب وتتجزأ في سرديات النساء والرجال الذين تعرضوا للعنف أو هُدِدوا باستعماله ضدهم.

ويلاحظ في هذا السياق تقلص درجة التناغم التي حددناها مسبقاً بوصفها أحد أعمدة مقاربة العنف الانثروبولوجية على نحوٍ متواصلٍ من المقاربة الأولى وصولاً إلى المقاربة الثالثة . وفي حين يُعنى المنظور الاجرائي بدراسة المعلمات (البارامترات) التي تتجاوز حدود الخصوصية الثقافية وتُقيد الأحداث العنيفة في داخل أطر الزمان والمكان والمجتمع، يستمد المنظور المعرفي بارامتراته من بنية العالم الاجتماعي التي تشيدها جماعة مُقيَدة زمنياً ومكانياً وفي الوقت نفسه تحوز على عناصر مناسبة تماماً لاغراض المقارنة. اما المقاربة التجريبية فتميل إلى إهمال التعميم الثقافي لصالح التركيز على الذاتية متعددة الجوانب. ومثلما بينّا في أعلاه، يميل أنصار وجهة النظر ما بعد الحداثية المتشددون إلى تبني وجهة نظر عشوائية للأحداث العنيفة. ووجهة النظر هذه تستبعد إمكانية إجراء المقارنة الانثروبولوجية وفائدتها. وبناءً على ذلك، وفي ضوء ما تبين لنا في النقاش أعلاه، نعتقد بضرورة توخي الحذر من أي مقاربة مبسطة وأحادية البعد توظف لدراسة العنف. ومن هنا تبرز أهمية المنظور الجدلي (الديالكتيكي)، أولاً لجهة تسليطه الضوء على الخصائص الجوهرية للعنف بوصفه مورداً اجتماعياً ووسيلةً تساعدنا، حسبما نعتقد، في إثراء الدراسة الميدانية التحليلية الفاعلة، وثانياً، لجهة عدم وقوفه عائقاً أمام التطبيق الناجح لمجموعة متنوعة من وجهات النظر المنهجية والنظرية . وهذه هي الرسالة التي يود الكتاب المسهمون في هذا المجلد إيصالها للقارئ المهتم واللبيب.

مسارات مستقبلية : المقاربة الانثروبولوجية للعنف: ختاماً، نود التأكيد على ضرورة أن تركز الدراسات الانثروبولوجية على الطبيعة الاجرائية/العملياتية للممارسات العنيفة عن طريق ربط الأخيرة–أي الممارسات– بكل من الصراعات ومتخيلاتها الثقافية لأهمية ذلك في ردم الفجوة بين العلوم الانثروبولوجية المختلفة المعنية بالصراع والعنف والحرب. فالعنف وكافة مظاهره الاجتماعية المتنوعة الملازمة له يمثلان ظاهرة معقدة للغاية من الصعوبة بمكان اختزالها إلى محض رد فعل آلي على الضغط الناجم عن قلة الموارد أو أحد دوافع الطبيعة البشرية ولا إلى مرونة الخطاب الاعتباطية أو الذاتية الفردية . ولهذا ، ينبغي فهم العنف بوصفه شكلاً من أشكال الممارسة التي يتوسطها التقييد التاريخي للفعل ضمن استجابة لظروف بنائية معينة تتحدد طبيعتها على وفق قدرة البشر على الإبداع والسعي الثقافي وراء المعنى. وينبغي للمقاربة الانثروبولوجية أن تتبنى منظوراً تحليلياً مقارناً بغية التمكن من الإسهام في فهم العنف وتفسيره فضلاً عن ملاحظة النقاط الآتية:

1-      لا تمثل أفعال العنف قط اندفاعات عدوانية مفاجئة مجردة من المعنى ومن سياقيها التاريخي والانعكاسي.

2-  المتخيلات العنيفة لا تمثل بنى زائلة أو مؤقتة للرؤى الذاتوية المتشظية . كما أنها ليست منتجات حتمية لمفاهيم متجسدة أمثال “النماذج الثقافية”، و”التراثات”.

3-  يتولى أداء أفعال العنف وكذلك تخيلها أشخاصٌ متموقعون اجتماعياً وانعكاسيون في ظل ظروف تاريخية محددة ولأسباب ملموسة ومعقولة من وجهة نظرهم.

وفضلاً عن ذلك ، ينبغي للمقاربة الانثروبولوجية أن تقدم وصفاً دقيقاً واضحاً لآليات التفسير اللازمة أمثال فهم المتخيلات الاجتماعية المؤثرة في صوغ شكل الممارسة الجماعية وتمثيل العنف فضلاً عن وصف خبرة العنف الذاتية ومبناها السردي. وختاماً، ينبغي للمقاربة الانثروبولوجية أن تهتم اهتماماً خاصاً بالخصائص الإجرائية / العملياتية المميزة للفعل العنيف. وهذه الخصائص بالإمكان وصفها بالاستناد إلى نموذج مؤلف من مراحلٍ أربعٍ :

1-  الصراع : التناقضات والتضادات الاجتماعية والاقتصادية التي تقع في قلب عملية التنافس بين المجموعات .

2-      المواجهة : إدراك الأطراف المشتركة أهمية هذه المسببات ودورها في بلورة العلاقة العدائية .

3-  الشرعنة : المصادقة الرسمية على العنف بوصفه مساراً مشروعاً للفعل عبر تخيل سيناريوهات العنف وتمثيلاته الاجتماعية المستمدة من الماضي. وفي هذه المرحلة تُحسم المسائل المتعلقة بمسار الأفعال العنيفة وتوقيتها وطبيعتها.

4-  الحرب: في حالة اجتياز الأطراف المعنية المراحل الثلاث أعلاه، نصل إلى المرحلة الرابعة ، مرحلة ممارسة العنف كونه وسيلةً لتحقيق غايات محددة.

ومرةً أخرى، ينبغي التأكيد أن استعمال العنف بوصفه مورداً ثقافياً لا يقع الا في المرحلة الأخيرة من هذه السلسلة. وعلى الرغم من ذلك ، لا يمكن عدّ أي من المراحل الثلاث المؤدية للحرب (المرحلة الرابعة) مرحلة حتمية او مرحلة لا يمكن التراجع عنها. ففي كل عملية انتقال من مرحلة إلى أخرى، هناك مسارات فعل بديلة غير عنيفة يمكن لأطراف الصراع اللجوء إليها لحسمه. ويلاحظ إمكانية نزع فتيل الأزمة والتخفيف من حدة التوتر، وربما استئناف الأطراف المتصارعة علاقاتها السلمية في كل مرحلة من هذه المراحل. ومن نافلة القول حدوث ذلك لأسبابٍ عدةٍ لا مجال للحديث عنها في هذه المقدمة. ومرةً أخرى، نؤكد تمثيل العنف جانباً مهماً في العلاقات الاجتماعية. وعلى نحو مماثل لما في السياقات الأخرى، تمتاز هذه العلاقات بطابعها التتبعي تاريخياً ، ويُرجح، في الأعم الأغلب، خضوعها لعمليتّي إعادة تعريف ومفاوضة.

وقد يبدو هذا النموذج ، بحسب بعض الانثروبولوجيين، مختزلاً ومجرداً للغاية (في واقع الأمر، يدين هذا النموذج بالفضل، في جزء كبير منه، إلى النماذج المأخوذة من العلوم السياسية ، ينظر بهذا الخصوص يونغ 1995)، ولذا نرجو من زملائنا الباحثين المضي قدماً وعدم التوقف عند مرحلة الوصف المجرد لخصائص الصراعات الإجرائية/العملياتية .

واستكمالاً لحديثنا، نعتقد أن النماذج الانثروبولوجية المُصممة لتفسير عملية خلق العوالم الاجتماعية المجدية هي نماذج مناسبة لتحليل آليات الممارسة الاجتماعية للعنف. وتسهم القرارات التي تقلص عدد الخيارات المتوفرة لحسم الصراع إلى خيارٍ واحدٍ فقط في دفع المجموعة إلى اللجوء إلى العنف في ظل ظروفٍ معينةً. وعليه ، ينبغي للانثروبولوجيين بذل المزيد من الجهود لفهم الدور الذي يضطلع به العامل الثقافي في صياغة ظروف العالم الواقعي التي تفرز هكذا قرارات. وتطرح الدراسات المنشورة في هذا المجلد عدداً من الأسئلة الحاسمة والمهمة من قبيل، ما سبب تأرجح العلاقات البينمجموعاتية، في بعض الحالات، بين  التعاون والتعايش أحياناً، وأحياناً أخرى المواجهة على طول مرحلة زمنية معينة ؟ هل يتصل ذلك بـ “لعبة السلطة” التي يلعبها الفواعل العقلانيون، أم العجز عن احتواء الصراع وحله عبر التحكيم لافتقار أحد الأطراف أو كليهما للمؤسسات المؤثرة ؟ هل لذلك علاقة ’بثقافات العنف‘ الناشئة بفعل دوافع لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بالمنطق ألأدواتي؟ وما مفاهيم الحرب والعنف التي تساعد في خوض تجربة المواجهة هذه؟ وما الوسائل التي تُرتكب بوساطتها أفعال العنف في سياقٍ ما محددٍ؟ وبقولٍ مختلفٍ، ما الأساليب التي يتبعها المشاركون في الصراع لتخيله وخوضه؟ وأخيراً، ما الوسائل التي بوساطتها تُحول تواريخ العنف إلى أجندات (برامج) للعنف (المشروع)؟ أن التاريخ لا يقدم نفسه لأفراد المجتمع المعتمدين على الذاكرة بوصفه شيئاً بديهياً جاهزاً؛ بل انه يُصنع في داخل الذاكرة الاجتماعية التي يتشاطرها أفراد المجتمع كافة الذين يمتلكون المشروعية اللازمة لإخراج أفكار الماضي وتجسيدها علناً. ولكن ، من هم هؤلاء الأفراد ؟ وما الأفكار والمصالح التي تحركهم ؟ هذه هي الأسئلة التي تسعى دراسات المجلد الحالي إلى الإجابة عنها.

وفضلاً عن ذلك ، يلاحظ انه ليس ثمة شكل أخر من أشكال العلاقات الاجتماعية التي تنزع نحو إعادة خلق الجماعات والولاءات وتخيلها وإعادة رسم الحدود الاجتماعية أو تعزيزها أشد راديكاليةً من المواجهة العنيفة . وبالعودة مرةً أخرى إلى سيمل، نوصي بتكريس المزيد من الاهتمام بدينامية العنف التي لا تدمر الحياة والروابط الاجتماعية فحسب، بل انها تشكل أداةً فاعلةً في خلق العوالم الاجتماعية (ينظر على وجه الخصوص غلن يومان – الفصل الثاني في هذا المجلد). والسبب في ذلك أن الجانبين الرئيسين في دينامية العنف المتعدد الاوجه لم يتضحا للعيان على نحوٍ مؤلمٍ ومأساوي الا في الآونة الأخيرة حينما أخذ العالم في مشاهدة فظائع الحرب وأهوالها في منطقة البلقان.

وثمة ملاحظة تحذيرية أخيرة بشأن ابحاث العنف نتمنى على زملائنا الانثروبولوجيين أخذها بعين الحسبان هي أنه بخلاف غالبية السياقات الاجتماعية الأخرى ، من الصعوبة بمكان ، بل يستحيل، معرفة الحقيقة كاملةً في سرديات المواجهات العنيفة . فعلى شاكلة المعتدين الذين يميلون إلى عدم الكشف عن دوافعهم الحقيقية، يميل الضحايا أنفسهم إلى تضخيم حجم معاناتهم. وفي واقع الأمر ، يرجح أن تخلق ديناميات العنف دوافعاً خاصة بها. وهذه الدوافع تكتسب أهمية أكبر في أذهان المنخرطين في الصراع ودوافعهم وتصوراتهم الأصلية. وعلى الرغم من مطالباتنا المتكررة بالاهتمام ببنى العنف الثقافية، لا نعتقد بإمكانية فهم الصراعات بوصفها مسارات مُنتَجةً تاريخياً على نحوٍ مناسبٍ بالاستناد إلى تجميع الروايات والشهادات التي يدلي بها المعتدون والضحايا والملاحظون فحسب. أن سرديات العنف جميعها لا تغدو واضحةً إلا في حال وضعناها بإزاء خصائص الصراع المادية والتتبعية التاريخية. وعن طريق جمع جانبيّ المواجهات العنيفة المختلفين هذين وفي الوقت نفسه المرتبطين جدلياً معاً، والنظر إلى الممارسة التاريخية بوصفها ممارسة تعكس المتخيلات الثقافية فضلاً عن أنماط التعبير التي تسهم الظروف التاريخية في ظهورها للوجود، سيتمكن علم الانثروبولوجي من الإسهام بفاعلية في فهم ظاهرة العنف في عالمنا الحديث .

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.