ليوتارد وفتجنشتين وقضية الترجمة – الجزء الثالث

liotar

ليوتارد وفتجنشتين وقضية الترجمة

بقلم: آرام أ. يانغويان

ترجمة: هناء خليف غني*

الجزء الثالث والأخير

 

النقاش: مما تقدم من آراء ومناقشات، نخلص إلى نتيجة مفادها ان الترجمة بوصفها فناً وفعلاً لا تمثل عملية محايدة قط. وقد تبينّ في حديثنا عن الجوانب المتصلة بحيادية الترجمة ان الترجمات الأولى أو المبكرة قد تكون أقرب إلى “الحيادية” من الترجمات اللاحقة التي تستعمل اللغة نفسها. ومن الأمثلة الدالة على ذلك دراسة المبشر اللوثري الالماني، كارل سترهلو (Carl Strehlow) ، الذي عاش في أوساط قبيلة الآراندا (Aranda) في مناطق وسط استراليا من حوالي العام 1894 إلى 1922. وأنشغل سترهلو في هذهِ المدة في ترجمة بعض اجزاء الكتاب المقدس إلى الآراندية، وهي لغة تحتوي على مجموعة معقدة للغاية من أزمان الأفعال (و/أو الأوجهية) التي تستعمل جميعا بأساليب متميزة في ما يتصل بقضايا القداسة في مقابل الأنشطة والاهتمامات الدنيوية العادية، فضلاً عن تعلقها بالآلية التي تعمل على وفقها عوامل الزمن في ربط الماضي الموغل في القدم بالماضي القريب فالماضي الأقرب، ثم الحاضر. وفي معرض محاولتهِ فهم كيف يتنوع الزمن والقداسة على نحو متبادل أدرك سترهلو ان استعمال الفعل الماضي في اللغة الالمانية قد شوه الطريقة التي تُقدم بوساطتها الأساطير الآراندية المتجذرة في الماضي الموغل في القدم في الزمن الحاضر (وربما المستقبل البعيد). ويتم هذا الانتقال عبر الزمن إلى ما لا نهاية في اللغة الآراندية عن طريق استعمال الماضي الناقص، الذي يُعدّ المكافىء الأقرب في اللغة الالمانية (والأنكليزية) لما موجود في الآراندية.

بيد ان استعمال الماضي الناقص (غير مستساغ) نسبياً، ولاسيما في اللغة الأنكليزية. ولمعرفتهِ ان الآراندية ستكون الشكل القياسي الذي ستتبعهُ الترجمات اللاحقة، إدرك سترهلو أن المشكلة لا تكمن في الآراندية، بل في مناحي القصور المتضمنة في اللغة الالمانية. ومنذ صدور دراستهِ القيمة، أستعملت اللغة الأنكليزية في ترجمة هذهِ النصوص الدينية. ويلاحظ على هذهِ الترجمات أنتقال المترجم التدريجي من استعمال الماضي الناقص إلى الفعل الماضي، الذي ينطوي على إشكالية كبيرة، وبالكاد يوجد ما يقابلهُ في الآراندية في أغلبية الحالات.

وتنطوي هذه الحالة الدراسية على أهمية بالغة لأسبابٍ عدةٍ. إذ أعتقد، أولاً، ان دراسة اللغة قد أضحت أكثر (علمية) بعد بروز علم اللغة بوصفهِ مسعىً تجريبياً  وتنظيرياً يكون الهدف من دراسة اللغة، على وفق مبادئهِ، هو أما البرهنة على جوانب معينة من اللسانيات النظرية وأما دحضها. وعليهِ، يبدو واضحاً تمثيل الترجمات الأولى أو المبكرة التي قام بها أفراد من خارج دائرة اللغويين المحترفين، تقريبات أوثق وأكثر مصداقية لهذهِ اللغات؛ وأمثلة حية على إمكانية إجراء الترجمة من دون انتهاك أساسيات اللغة الهدف موضوع الدراسة. ومرةً أخرى ، يتمكن سترهلو، الذي رغم إتقانهِ اللغة الآراندية، لا يمتلك المؤهلات الفكرية التي يستلزمها العمل طبقاً لنظام معرفي ما، من معرفة أدق التفاصيل الخاصة بكيفية ترجمة النصوص الأنجيلية إلى الآراندية، وبالمقابل ترجمة النصوص الأسطورية الآراندية إلى اللغة الالمانية. ومن نافلة القول الاحتمال الدائم لخسارة شيء ما في عملية الترجمة. غير أن الخسارة في هذهِ الحالة هي أقل بكثير مما يحدث عندما تُعامل الموضوعات في النظم المعرفية بنحوٍ مفرطٍ في منهجيتهِ أو شكلانيتهِ. والمثال الذي قدمهُ سترهلو في دراستهِ ليس المثال الوحيد من نوعهِ إذ مازال تحليل قواعد اللغة البورمية ومفرداتها الذي إجراه ادونيرام جدسون (Adoniram Judson) في مطلع خمسينيات القرن التاسع عشر، مازالت تُعدّ واحدة من أفضل الدراسات النحوية لهذهِ اللغة. ومرةً أخرى، نلاحظ الحضور المميز للغة البورمية في تحليلهِ الذي يتسم، بكونه خالياً تقريباً، مما ينبغي لعلم اللغة تقديمه في ذلك الوقت.

ثانياً، إذا كانت الحيادية أمراً مثالياً غامضاً بالإمكان مقاربتهِ، تزداد هذهِ المشكلة تعقيداً بسبب ما أطلق عليهِ طلال أسعد (1993: 189)((اللغات غير المتساوية)). إذ تشترك اللغات المتساوية إلى حدٍ ما- بمعنى انطوائها على درجة من التماثل في ما يتصل بتجانسها وهيمنتها السياسية والاقتصادية أمثال اللغتين الأنكليزية والفرنسية التي تقع فيهما عمليات الترجمة والنقد بوصفهما تعبيراً جدلياً- في قدرتها على الإبتكار وسهولة التناقل؛ وتقديم هاتين الفعاليتين بوصفهما نقداً إيجابياً موجهاً لا للغة نفسها فحسب، بل للغة الأخرى أيضاً. وعلى الرغم من ذلك، يلاحظ إن الحروب الثقافية العالمية الحالية بين عوامل التأثير والهيمنة الفرانكوفونية (الدول الناطقة بالفرنسية) والانكلوفونية (الدول الناطقة بالأنكليزية)، حتى في ما بين اللغات المتساوية أمثال الأنكليزية والفرنسية، قد بلغت حالة عدم مساواة جزئية. وأكد أسعد (1993: 189) على ضرورة بناء النقد على الترجمة الجيدة، مفترضاً ان هذهِ الترجمة مبنية في جزء منها على لغتين متباينتين في درجة تساويهما على وفق املاءات السلطة، على الرغم من احتمال استحالة حدوث ذلك حتى في حالات كهذهِ. وبالعودة إلى اورتيغا ي غازيت (1937، أُعيد طبعهِ في شولت وآخرين 1992)، بالإمكان القول أنهُ حتى الترجمات من الاسبانية إلى الفرنسية وبالعكس تتصف بكونها فوضوية لجهة ما يُخسر ناهيك عن ما يُساء فهمهِ.

ويتميز تأثير الخسارة في الترجمة بكونهِ أعظم في اللغات التي لا تتميز بكونها متباعدة فحسب، بل تنطوي على تمايز جوهري وملحوظ لجهة عدم المساواة؛ بمعنى ان علاقات السلطة الخاصة بالسياق الاجتماعي – والسياسي المهيمن تحوز القوة اللازمة التي تمكنها من الحيلولة دون حصول المتحدثين في العالم الثالث – أو ربما الرابع- من حق التعبير عن أنفسهم. وتُعدّ مشكلة الاختلافات في السلطة الأساس الذي تستند إليهِ الامبريالية اللغوية كما تجسدت في محاولتنا في ترجمة النصوص. وفي هذا السياق حاول أسعد (1993) استكشاف الجوانب المتنوعة التي تغدو فيها عملية الترجمة تحولاً مفروضاً يتمخض عن موقف يتم بوساطتهِ صياغة لغة المُستعَمر ثم إعادة صياغتها وهضمها في لغة المُستعِمر.

في السياق نفسه، لاحظ والتر بنجامين (1969[1923]) حالة اللامساواة هذهِ في إحالتهِ على بانوتز واقتباسهِ منه: “تنبثق ترجماتنا، حتى أفضلها، من قاعدة خاطئة. يريد المترجمون ترجمة  الأعمال المكتوبة باللغات الهندية، والأغريقية، والأنكليزية إلى الالمانية بدلاً من ترجمة الأعمال المكتوبة بالالمانية إلى هذهِ اللغات. ويبدو ان التقدير الذي يكنه المترجمون للغتهم الأم ورغبتهم في استعمالها اكبر بكثير من تقديرهم لروح الأعمال الأجنبية. والخطأ الرئيس الذي يقع فيه المترجم هو ميلهِ إلى الاعتزاز بلغتهِ الأم عوضاً عن السماح للغة الاجنبية التأثير في لغتهِ. ويتجلى هذا الوضع بوضوح في حالة الترجمة عن لغة بعيدة [زمنياً] الأمر الذي يضطر المترجم إلى الرجوع إلى عناصر اللغة الأساسية نفسها والتوغل فيها إلى الحد الذي يَجتمع فيهِ العمل، والصورة، والنبرة. ينبغي لهذا المترجم ان يعمل في توسيع مدارك لغتهِ ويعمقها من خلال الاستعانة باللغة الاجنبية. وعموماً، ليس من المعروف إلى أي حد يمكننا القيام بذلك، وثمة أسئلة مازالت بحاجة إلى أجوبة تتصل بمدى القدرة على تحويل اللغة، أي لغة، وتحديد كيف تختلف لغة عن لغة أخرى بالطريقة نفسها التي تختلف فيها لهجة عن لهجة أخرى. وبرغم ذلك، لا يمكن الجزم بصحة ما تحدثنا عنهُ في هذهِ الأسطر الأخيرة إلا إذا تعاملنا مع اللغة بدرجة كافية من الجدية”.

وترتبط التأثيرات الهائلة التي تمارسها العولمة في الوقت الحاضر فضلاً عن الحركات العابرة للقوميات التي افرزتها الثقافة المعولمة ارتباطاً خطياً بما تنبأ بهِ بنجامين. وإذا كان الأنثروبولوجيون أمثالي وطلال اسعد وعلماء اللغة أمثال بيكر يشعرون بالآسى للطريقة التي أسهمت بها اللغة وسلطة المستَعمِر في تشكيل علاقات اللامساواة التي لا يمكن عكسها، إذن من البديهي القول بتمثيل مشاعر القلق التي يشعر بها البعض بشأن انقراض اللغة والمجزرة الثقافية جانباً اساسياً من عملية يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر.  وهذهِ العملية لم تكن تمثل، في جزء منها في الأقل، نوعاً من أنواع الامبريالية العالمية فحسب، بل أنها ترتبط بالهيمنة الفكرية للمؤسسات الأكاديمية الغربية التي تواصل انتشارها في انحاء العالم كافة. ولطالما تحالفت التخصصات المهنية مع الرغبة بترسيخ حالة التماثل في المنهج والنظرية ولاسيما في العلوم الاجتماعية لمكافحة فكرة الاختلاف.

 

منظورات: يتمثل التحدي الرئيس الذي يواجهه عالم الأنثروبولوجي في عملية الترجمة نفسها بنوعيها اللغوي والثقافي. وقد ناقش فتجنشتين وليوتارد المضامين والتعقيدات التي تنطوي عليها هذهِ العملية في أعمالهما المتعددة. وبفضل التأكيد على أهمية الاختلاف بصفتهِ اشتغالاً فكرياً وبرنامجاً سياسياً، تمكن فتجشتين وليوتارد من فهم مخاطر التماثلية في تعبيراتها المتنوعة. إذ يرى فتجشتين ان اللغة تخدم غرض خلق الفرضيات المتنوعة التي نستعملها في تعبيراتنا اليومية، وبينما نتخيل ان طبيعة الشيء قد تم تحديدها ، لا يمكن ان نجد في التعبير سوى الإطار الذي نرى بوساطتهِ هذا الشيء. وبينما يستلهم فتجنشتين الجملة بوصفها التعبير النهائي الذي يكمن فيهِ الاختلاف، يتحرك ليوتارد على نحوٍ أسرع نحو الاختلاف والخصوصية مستلهماً نظام العبارة بوصفهِ المستوى النهائي الذي يوجد فيهِ الاختلاف.

وهكذا، يسجل الاختلاف بوصفهِ بداية المشروع الترجمي ونهايتهِ حضورهِ الدائم. وتعيدنا جذور هذا الموقف إلى اعتقاد اليونانيين القدماء الذي يتضح في مقولة هيراقلطيس “لا يمكن للمرء ان يسبح في النهر نفسهِ مرتين”. فالسياقات والأحداث تتغير والأطر تتبدل ومرةً أخرى نعود إلى ما لا نهاية. هل يعني ذلك ان الإطار والتأطير هما الإنجاز الوحيد المتاح لنا تحقيقه؟ هل ثمة إمكانية لفهم “الكل” أو “الصورة الشاملة” من إطار واحد، من لوحة واحدة لا تقدم سوى صورة أو بورتريت شخصي واحد. لا يمكن لأحد ان يسبح في النهر نفسهِ مرتين، صحيح، ولكن ماذا عن النهر نفسهِ؟ ما يمكن ان نقول عنه؟

وعملية دخول الإطار هذهِ هي أول مهمة ينبغي للترجمة القيام بها بدقة وحذر متناهيين. في كتابهِ (الوجود والزمن ، 1962)، تحدث هيدجر عن إمكانية تلخيص المشكلة بالمقولة التالية “ليس الخروج من الحلقة هو الموضوع الحاسم والجوهري، بل التعامل معها بالطريقة الصحيحة”. وعلى الرغم من احتمال إخفاق الأنثروبولوجيين، وبدرجة أقل اللغويين، في معرفة “هذهِ الطريقة الصحيحة”، فأنهم مازالوا ملتزمين باداء المهمة، ولاسيما في التعامل مع النصوص واللغات البعيدة.

وهذهِ الاختلافات في المقاربات الفلسفية تعيدنا مرةً أخرى إلى نقطتيّ الانطلاق الرئيستين في هذا النقاش، تتعلق أولى هاتين النقطتين بالنقاش النقدي المتواصل في الجماليات الماركسية بين الشكل والمضمون. إن الإشارة إلى التضاد بين الشكل والمضمون في الحديث عن الترجمة قد تسمح لنا بتوضيح المسارات السابقة التي سارت فيها المحاولات في نظرية الترجمة وإلى أي حد يمكن للمحاولات المستقبلية تجاوزها. وتعكس كتابات فتجنشتين وبيكر اللذان يدركان تماماً تساوي المضمون والشكل لجهة أهميتهما، هذا السجال المتواصل بينهما. وعلى الرغم من صعوبة وصف هذهِ التطورات بالماركسية، أسهمت هذهِ التطورات في جذب انتباهنا إلى أهمية معرفة كيف تكون الأشكال بوصفها أطراً محددة وفي الوقت نفسهِ متغيرة على نحوٍ دائم. نستطيع، في أفضل الحالات، وصف الأطر والشكل، غير ان ذلك يدفعنا إلى الأهتمام بقضايا المضمون واللهجات، والبروز المحتمل للفوضى الناجمة عن العلاقات المتداخلة والدقيقة بين الشكل والمضمون في أي سياق محدد سواء أكان ترجمة، أم لغة أم حتى نظام اجتماعي مبني على الطبقة.

إن عرض القضية بطريقة أخرى تنطوي على مضامين أعمق بالنسبة لعلم الأنثروبولوجي يعني طرح مشكلة الروايات/ التوصيفات قديمة العهد التي تتحرك من الداخل إلى الخارج ، في مقابل تلك التي تتحرك من الخارج إلى الداخل. وإذا كان هيدجر يعتقد ان المشكلة تتعلق بالانتقال من الخارجي إلى الداخلي، تُعد محاولات بنجامين في الترجمة المسؤولة عن طرح موقف الداخل أو الإطار الذي يشكك في الفرضية القائلة ان الشكل يسبق المضمون. يرى بنجامين ان الكلمات في لغة ما لا تمثل، ببساطة، دوال، وهي الفرضية السوسيرية التقليدية، بل أنها تمثل مساراً داخلياً نحو الفكرة المترتبة على قول هذهِ الكلمات. في احدى دراساتهِ الحديثة (2001)، سلط الروائي والناقد الأدبي جي أم كوتزي الضوء على هذا الموضوع في كتابات بنجامين عن طريق تأكيده ان الكلمات لا تمثل ببساطة تعاملات ثنائية، بل انها تعكس كذلك اتجاهات متناغمة مع الفكرة التي تُعدّ الاشتغال النقدي الرئيس لبنجامين فيما يتصل باللغة بوصفها شكلاً من أشكال المحاكاة. وكما لاحظ كوتزي (2001: 30)، ليس ثمة مكان لفكرة المحاكاة في اللغة في العلوم اللغوية الحديثة. وبرغم ذلك، بالإمكان، في تاريخ اللغة، تعقب موقف بنجامين إلى مفاهيم القرنين السادس عشر والسابع عشر التي تزعم ان اللغة هي، في الأساس، ارتباط ثلاثي يختلف اختلافاً واضحاً عن نظريات اللغة الثنائية التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر ثم في أعمال فرديناند دي سوسير.

وعلى الرغم من ذلك، أتسم موقف بنجامين بالحذر الدائم من مسألة التنظير بالنظر لدورها في فرض قيد خارجي على الظواهر نفسها التي تحاول تفسيرها من الداخل. وقد بينّ كوتزي (2001) على نحوٍ لا يقبل الشك ان مقاربة بنجامين النظرية لمشروع اركيدز(Arcades) يعكس مناحي القصور في منظورهِ التي تمخضت عن ردود الأفعال السلبية التي أبداها كل من ادورنو وبرخت. ويبدو التماثل مع مشروع اركيدز واضحاً في مقاربة بنجامين للترجمة التي عُرفت بالتزامها بمقاربة داخلية تربط الكلمات والمعاني وتوجههما صوب الفكرة. وبصرف النظر عن تضاد الداخل/الخارج، مازال الصراع القائم بين ترجمة الشكل وترجمة المضمون وتحديد السبيل الأمثل للجمع، نظرياً، بينهما يمثل أحد المعضلات المستعصية في المقاربتين الماركسية واللاماركسية على السواء.

وقد يبدو علم الأنثروبولوجي بوصفهِ ترجمة ثقافية موضوعاً ثانوياً بالنسبة لسلاسل التطورات التي شهدها التاريخ الفكري. إذ تختلف اللغة وما وراء اللغة فيما يتصل بالترجمة عن التقاليد الفكرية الأخرى، وبرغم ذلك ، مازلنا نواجه المشكلات نفسها التي واجهها بنجامين. ويمكن القول ان أغلبية ترجماتنا تتميز بكونها تطورات في الشكل على حساب المضمون أو ربما هيمنة الخارج على الداخل. وإذا كان علم الأنثروبولوجي أو بعض فروعه تزعم ان معرفة الثقافة ونقلها هو معرفة روحها، ليس ثمة سبيل لفهم ذلك أو تفسيرهِ إلا بوصفهِ مسألة المضمون الذي يدل على الفرادة التي تعبر عنها الثقافات واللغات المحلية وتخلقها وتبينّها.

إن التحدي الذي ينبغي لكل عملية ترجمة التصدي لهُ هو النجاح في نقل اختلاف المعنى وفي الوقت نفسهِ تشابهه. وهكذا، قد تكون المشاريع الترجمية الثقافية منها واللغوية مليئة بالأخطاء ومشحونة بالمشكلات التي لا يمكن التغلب عليها احياناً، وبرغم ذلك ينبغي لنا ان ندرك ان الغرض من تنفيذ هذهِ المشاريع هو اثبات حضور الاختلاف بوصفهِ جزءاً من المسعى الإنساني لفهم ظاهرة التغيرية أو اللاثبات في الوضع البشري. الترجمة عملية مستحيلة ومحاولاتنا لا تعدو كونها محاولات “تقريبية” لا يمكن سوى للناطق باللغة نقدها. و”الداخلي” و “المضمون” هما الحكمان النهائيان على المشروع. وهيأة المحلفين في هذهِ الحالة هم الناطقون باللغة وفواعل الثقافة.

شكر وتقدير:  أتقدم بالشكر الجزيل إلى كل من فكتور غولا وسمندل هاوس لتفضلهم بقراءة المسودة الأولى لهذا الفصل. في واقع الأمر، لعبت هذهِ القراءة المتأنية والدقيقة دوراً في مساعدتي في تجنب الكثير من الأخطاء الحاسمة.

 

 

هوامش المترجمة

 

  • الإسمانية: مذهب فلسفي يقول بأن المفاهيم المجردة، أو الكليّات، ليس لها وجود حقيقي، وأنها مجرد أسماء ليس غير.
  • متشاكل: متماثل في الشكل مختلف في الأسلاف ولكنهُ متساوٍ في الشكل.
  • يقدرِّ استقرائياً: يستنتج من سلسلة الملاحظات أحوالاً أو تطورات محتملة الوقوع ولكنها غير ملاحظة.

 

 

 

 

*النص مقتطف من كتاب “ترجمة الثقافات: علم الأنثروبولوجيا والترجمة” ترجمة د. هناء خليف غني : أستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة القادسية ومترجمة متخصصصة في الأنثروبولوجيا

 

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.