تحدي الأنثروبولوجيا

    يكثر الكلام عن ثورة الفايسبوك والتويتر ، أو عن الثورات التي فجرها أو كان موقدها الأساسي الفيسبوك ، كما يشهد العالم حالياً ثورة رقمية غير مسبوقة في التواصل والتشبيك ، حيث يكفي أن يكون المحتوى (صورة ، فيلماً ، إسماً) على الإنترنت ، ليتم تبادله وإنتشاره في زمكان خائلي (virtual spacetime) !

    أضحى من الصعب الفصل بين الإنسان كوجود فيزيقي واقعي ، وبين إمتداداته الرقمية الخائلية حيث تحول من إنسان إلى أرقام على الإنترنت !

m3

    ربما كان فيلم “المصفوفة” (The Matrix) بأجزائه الثلاثة (إنتاج 1999) و(إنتاج 2003) ، كما فيلم “سيمون” (S1m0ne) (إنتاج 2002) سبّاقيْن في تقديم رؤية للمستقبل الذي أضحى حاضراً . هذا المستقبل الذي تحولنا فيه إلى إنسالة ، وبتعريف موجز : الإنسان الذي يعتمد على الآلة جزئياً أو كلياً .

    عدد الأفراد على الفيسبوك تخطى 1400 مليون مشترك ! هذا الرقم ، يوحي بأكثر من شبكة تواصل إجتماعي ! هو مجتمع قائم بحد ذاته ، له طقوسه ، وعاداته ، وأفكاره ، ورموزه ، ولا بد من مقاربته بهذا الشكل ، وبهذا الإطار .

    لا بد من رؤية ما يطرحه هذا المجتمع الإنسالي الجديد ، على الإنسان ، بمعزل عن مكانه !

    عندما يتم ذكر القرية الكونية ، نشعر كأنثروبولوجيين بمشاعر متناقضة ، حزناً على التنوع والإختلاف الذي يسحق دون رحمة ، وفرحة بالتواصل القروي ، الذي يعيدنا إلى بدايات التلاقي مع الآخر ، وحميميته (وإن كانت الرسائل التي نشرت مؤخراً لمالينوفسكي توحي بالعكس) . هي إذن ، لحظة صدام/تلاقي ، بين الأنا والآخر ، هي لحظة تَولَّد عنها علم يسعى لإكتشاف الآخر ، وبالتالي الأنا !

    ربما يمكن القول أن الأنثروبولوجيا هي سيكولوجيا ماكروية معكوسة ! إذ عن طريق فهم الآخر ، بشمولية ثقافته ، يمكن لي فهم ثقافتي ، عبر فهم التطور الذي جرى عنده (ويجري) ، يمكن لي فهم ما يجري هنا في هذا الزمان والمكان !

    وهذا ما يعيدنا إلى صلب العصر الرقمي ! الزمان والمكان الذي أضحى (أو يكاد) زمكاناً موحداً !

    أتواصل مع شخص في اليابان – مع إختلاف التوقيت – في ذات اللحظة ! هو وأنا في ذات المكان – ولو إبتعدنا آلاف الأميال – هذا ما حققته الثورة الرقمية !

    أتواصل مع الآخر ، فأفهم الأنا ، لأستعيدها مختلفة ، تتلاقح الأنوات في العالم الرقمي ، حيث لا يبقى واحد هو هو!

    وكما الأنوات ، كذلك الهويات ، والثقافات ، ليصبح في المحصلة لدينا “قرية كونية” !

    هل يمكن القول أن إنتماءنا لم يعد لوطن واقعي ، بل لشبكة (مصفوفة) خائلية ، تمنحنا جنسيتها فنصبح مواطنيها (nitezen vs citizen) ؟!

    نشهد ولادة مجتمع جديد ، وكم هو رائع أن نشاهد تكونه ! العقد الإجتماعي الذي إستقرأه “روسو” ، يستولد ذاته بأشكال مختلفة أمامنا ، وما علينا إلا أن نبدأ وصفه ، تحليله ، وتفسيره !

    ما سبق وعايشته الأنثروبولوجيا ، يمكن له أن يعاد إستيلاده عبر مقاربات تجريبية متجدّدة ، إذ يحمل المستقبل معه تطورات قد لا نقترب من فكاك سحرها ! قد يتغير العلم ومقارباته ، لكن تبقى محاولة الإنسان الدائمة لفهم ذاته ، ولا يمكن فهمها إلا من خلال علاقتها مع الآخر (إنسان ، إنسالة ، آلة ، بيئة) !

    وهذا أصل نشأة الأنثروبولوجيا ، حيث ولدت من رحم السوسيولوجيا بعد أن إكتشف عقمه في دراسة الشعوب “غير الأوروبية” . فهل ستقدر الأنثروبولوجيا على تجديد مقارباتها لتخوض غمار “الرقمي” ؟! أم سنشهد بروز فرع معرفي جديد ؟!




ملاحظة : نشرتها مسبقاً على مدونتي على هذا الرابط

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.