تجربة الألم للأنثروبولوجيّ الفرنسيّ دافيد لوبروطون

%d9%84%d9%85%d9%87%d8%af%d9%8a-%d9%85%d8%b3%d8%aa%d9%82%d9%8a%d9%85

تجربة الألم للأنثروبولوجيّ الفرنسيّ دافيد لوبروطون

المهدي مستقيم*

تكتسي أبحاث العالِم الأنثروبولوجيّ الفرنسيّ دافيد لوبروطون، أهمّية خاصّة، ضمن حقل العلوم الاجتماعيّة المُعاصِرة، وذلك بالنظر إلى جِدّة القضايا التي يشتغل عليها وعُمقها، وتفرُّد مُقاربته لها، حيث عُرِف باهتمامه بمجالاتٍ هامشيّة، لا ينتبه إليها علماء الأنثروبولوجيا وعُلماء الاجتماع إلّا في ما ندر، ونخصّ بالذكر منها لا الحصر بحثه الموسوم بـ “تجربة الألم”، الصادرة ترجمته العربيّة حديثاً، عن دار توبقال للنشر والتوزيع/المغرب(2018)، بقلم الباحث والمُترجِم المغربيّ فريد الزاهي.

يبسط الأستاذ فريد الزاهي في الكلمة التي خصّها لهذه الترجمة، مجموع الدوافع التي جعلته ينكبّ على نقْل هذا الكِتاب إلى اللّغة العربيّة، مركّزاً على سعيه الحثيث إلى الإسهام في تبديد الشحّ والهزالة التي تحيط باستقبال النصوص الكبرى، التي تهمّ الجسد واليومي على مستوى حقل العلوم الاجتماعيّة؛ ففي  العالَم العربي، لا تولي هذه العلوم ” أهمّية كبرى للجسد واليومي، مديرة الظهر للظواهر الفرديّة التي يعيشها الإنسان… فالعلوم الاجتماعيّة لا تختصّ فقط بالجمعي وإنّما بالفردي، ولا أدلّ على ذلك من أنّ دوركهايم رائد عِلم الاجتماع، قد خصَّص دراسة مرجعيّة مهمّة عن ظاهرة الانتحار في بدايات القرن الماضي، وهي الظاهرة التي صارت تستشري بين الشباب، من مدّة، في بلدان العالَم العربي من غير أن يتمّ الاهتمام بها وبِعللها وبطبيعة مُمارستها والألم الشخصي والاجتماعي الثاوي وراءها”.

يوضح دافيد لوبروطون، أنّ هذا المصنّف هو امتداد لمصنّفات سابقة، حين يؤكّد قائلاً: ” الكِتاب امتداد لكِتاب أنتروبولوجيا الألم (1995 ، أعيد طبعه سنة 2004)، الذي ألحَّ بالأخصّ على البُعد الاجتماعي والثقافي للألم. ومنذ الطبعة الأولى لذلك الكِتاب، لم أكتفِ فقط بمُتابعة تلك الأبحاث في سياق المرض أو الحوادث، وإنّما تابعتُ أيضاً الأبحاث الخاصّة بالسلوك ذي المَخاطر لدى الشباب (2002 ،2003، 2007) والرياضة القصوى (2002)، والبودي آرت (فنّ الجسد) والطقوس المُعاصرة لتعليق الجسد (2003). إنّ هذه الأوجه المتعدّدة للألم توسِّع من فهمه بتبيان التنويعات الهائلة للإحساس به”. ومن ثمّة على القارئ، إن هو أراد الإمساك بخيوط المعاني والدلالات المتشعّبة، داخل هذا المصنّف، أن يستحضر نتائج هذه الابحاث.

على امتداد مائتي صفحة، يطوف بنا دافيد لوبروطون في رحلة مُمتعة داخل عوالِم الألم، انطلاقاً من أبعاده المادّية، المتمثّلة في المرض أو التعرّض لحادثة، وصولاً إلى أبعاده الرمزيّة المتمثّلة في العذاب النفسي الذي يهدِّد هويّة الفرد، مُستنطقاً بذلك أنواع الألم القسريّة والطوعيّة، وطُرق تملّك الألم وضبطه وترويضه؛ إذ يُعالج تجربة الألم والطريقة التي يُعاش بها ويتمّ الإحساس بها من قبل الأفراد، ويحاول الاقتراب ما أمكن من الشخص ليحقِّق فهماً دقيقاً حول الحياة الفرديّة المَعيشة، وذلك بالاستناد إلى أدوات البحث الأنثروبولوجي.

يسعى لوبروطون إلى الكشف عن مجموع التمفصلات التي تسكن العلاقة القائمة بين الألم Douleur، والعذاب Souffrance، إذ باستثناء الفصل الأوّل المُعنوَن بـ: “لا وجود لألمٍ من غير عذاب”، الذي صوَّر فيه الألم كتجربة تقود إلى العذاب، كالذي يعيشه الشخص أثناء المرض أو مخلّفات الحوادث أو التعذيب، يصرّ  لوبروطون على تصوير الألم كضرورة وجوديّة تتعالى على العذاب لتحصيل اللّذة وتحقيق الذّات، والمتعة، والتفتّح الذاتي، وخصوصاً في فصول الكِتاب الموالية التي جاءت عناوينها كما يلي: “الألم والمعنى”/ “ألمٌ ضروريّ للوجود”/ “الألم والتعذيب”، “تهميش الذات” / “اشتغال الألم”، “الألم المُلتبس: الوضع/الألم ضدّ العذاب”. ويرجع ذلك إلى اعتقاد لوبروطون في أطروحة أساسيّة، مفادها أنّ “الألم المطلوب أو المَعيش من خلال السلوك ذي المخاطر أو حزّ الجسم هو من طبيعة مُغايرة للألم المُلِمّ بالمريض مثلاً. فالرياضي المُمارِس للرياضات القصوى أو الرياضي في المُسابقات أو من خلال التدريبات هو امرأة أو رجل يقبل بالألم باعتباره مادّة أوّلية لمنجزاته، فيسعى إلى ترويضه وكبحه، ويعلم أنّه إن لم “يُهاجمه بكلّ قواه” فسيكون ذلك من باب التهوّر. أمّا الشخص الذي يعلِّق نفسه بمعلاق من الحديد في الصدر، فإنّه يسعى إلى النشوة أو إلى عيش تجربة روحانيّة. وفي سجلّ آخر، تبيّن تجربة وضع الحامل لحملها عن لَبس قويّ، بحيث إنّ بعض النساء يعشنها باعتبارها عذاباً لا يُحتمل والأخريات بوصفها إحساساً لا يُنسى لكن لا علاقة لها بالألم. ثمّة أيضاً مَن يبحث عن النشوة الجنسيّة من خلال تمارين متنوّعة للقسوة في المُمارسات السادومازوشيّة. الألم مُتراكِب كالدمى الروسيّة. ما إن نفتح واحدة حتّى تظهر أخرى وهكذا دواليك. بالجملة فأوجه الألم لا حصر لها”. غير أنّه لا تفوتنا الإشارة إلى أن نؤكّد رفقةً لوبروطون أنّ هذا البحث بعيد كلّ البعد عن كلّ أنواع التصوّف، إذ بإمكان قائل أن يقول إنّ المرء، رجلاً كان أم امرأة، بإمكانه أن يعرِّض نفسه لمختلف أنواع الحرمان الفظيع وأن يعيش شتّى أنواع الجروح، ليس بما هي عذاب وإنّما بما هي ضرب من ضروب التلذّذ، تبعاً لاعتقادٍ مفاده أنّ هذه المحن قد تقرّبه من الله. قول كهذا لا يدخل ضمن دائرة اهتمام هذا الكِتاب، بيد أنّ لوبروطون قد أفرد لهذا المستوى من النقاش، كتاباً خاصّاً يحمل عنوان: “أنتروبولوجيا الألم“، صدر سنة 2001 .

تنطوي تجربة الألم على خاصّية جوهريّة، تجعله لا يمنح الشهيّة في أيّ شيء، إذ سرعان ما يستأصل الإنسان من فضاء عاداته القديمة، ويدفعه مُكرهاً إلى التملّص والانفلات من ذاته، ليعيش مُغترباً عنها، في ما يشبه الحداد على الذّات، من دون أن يتيح له أدنى إمكانات الالتحاق بها مرّة أخرى. وفي الوقت نفسه، يستأنف العذاب توسيع هذا الانزياح ومطّه، ليشمل الوجود بكامله، ما يجعل العذاب جزءاً من الألم، أو وظيفة للمعنى الذي يكتسيه الألم، إنّه بعبارة أدقّ، العنف الذي يخضع له الإنسان. ومن أجل ذلك فإن “الألم يكون دوماً متضمَّناً في عذاب معيّن، إنّه منذ البدء ألم وعدوان لا يُطاق إلى هذا الحدّ أو ذاك. العذاب هو الصدى الحميم للألم، ومقياسه الذاتي. إنّه هو ما يفعله الفرد بألمه، وهو يشمل مجمل سلوكه ومواقفه، أي استسلامه أو مُقاومته للانصياع لتيّار الألم ومَصادره الجسمانيّة والمعنويّة ليصمد أمام المحنة. العذاب ليس امتداداً لتشوّه عضوي، وإنّما هو نشاط للمعنى لدى الإنسان الذي يتعذّب. وإذا كان الألم زلزالاً حسّياً، فإنّه لا يصيب إلّا بمقدار العذاب الذي يؤدّي إليه، أي المعنى الذي يتّسم به. لنذكّر بهذا الصدد بتعريف بول ريكور، الذي يعتبر أنّ الألم ينطبق على ” الأحاسيس التي يتمّ عيشها باعتبارها متموقعة في أعضاءٍ خصوصيّة من الجسد أو في الجسد بكامله، وأنّ العذاب لفظ يحيل على أحاسيس مُنفتحة على الانعكاسيّة واللّغة والعلاقة بالذات والعلاقة بالغَير والعلاقة بالمعنى وبالتساؤل”.

الألم إذن، تجربة تعاش، وقوّة لا يتلمّس مفعولها إلّا مَن يحسّ بها، بيد أنّ الألم شأنه شأن المرض أو الموت فدية للبُعد الجسماني للوجود، إنّه حظوة الشرط الإنساني والحيواني ومأساته، وعلى الرّغم من أنّه ضرورة يشترك فيها جميع الناس، إلّا أنّه يظهر دوماً للشخص الذي يعيش تجربته وكأنّه معطى دخيل على ذاته، “هذا الألم لم نكُن نتصوّره قبل أن يصيبنا. ونحن، بعد أن ألمَّ بنا، بالكاد نستطيع تصوّره باعتباره ألماً”.

*باحث من المغرب

 

المصدر: نشرة أفق، مؤسسة الفكر العربي، عدد 924،

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.