تأثير وسائل الانتاج على أنظمة القرابة

تأثير وسائل الانتاج على أنظمة القرابة

عبدالله سامي أبولوز

تعتبر دراسة القرابة وتشكل أنماطها موضوعًا دسمًا لمختلف المدارس في تراث الدراسات الأنثروبولوجية، ولقد تلاقطته المدارس والنظريات من كل حدبٍ وصوب. إن قارئًا مبتدأً في كتاب مرجعي عن أنثربولوجيا القرابة يحار في تقديمه لنظرية على أخرى، نظرًا لحجم الأدلة التي يقدمها المنظرون. قدّم ليفي ستراوس أحد أشهر أعلام البنيوية نظرية يرى فيها أن دراسة المصطلحات المعتمدة في نُظم القرابة في كل مجتمع هي الوسيلة لمعرفته بشكلٍ عميق، حيث يكمن في كل مجتمع بُنى لغوية تمثل حجر الأساس التي يقوم عليها نظمه القرابية، ولكن هذه البُنى اللغوية الأساسية لا تعني شيئًا بدون النظام التي تشكله، ومن هنا كانت العلاقة البنيوية التي تظهر في الترابط بين النظام ومكوناته. إن الاتجاه البنيوي جاء متأخرًا في حقل الدراسات القرابية، وقد سبقه الاتجاه التطوري الذي يرى أن العامل الأساسي في تكوين الأنظمة القرابية، هو عامل مادي يتمثل بحوادث الطبيعة وضروراتها، حيث يمتثل البشر لضرورات البيئة المحيطة، والضغط السكّاني، والحاجة إلى الغذاء، في تشكيل المجتمعات وأنظمة قرابتها، ويعتبر لويس مورغان وكتابه المجتمع القديم، والذي رتّب تطور المجتمعات البشرية في مراحل ثلاث : التوحش والبربرية والمدنية، أن الأنظمة التي تحكم علاقات القرابة تسيطر على تاريخ الإنسان البدائي، لقد كان لكتابات مورغان التطورية أثرًا كبيرًا على إنجلز وماركس وهذا ما سنلحظه فيما يلي.

تتفق الدراسة الاثنوغرافية (1) التي يقدمها موريس بلوخ في مقالته، في تأثير الأسباب المادية في تشكيل المجتمع مع المدرسة التطورية، إلا أنها تختلف معها في كونها تدرس بتركيز الأسباب المادية الإقتصادية الداخلية التي تعمل على تشكيل المجتمع؛ في حين تركز المدرسة التطورية على العوامل الخارجية المؤثرة في تشكيل المجتمع ومنظوماته القرابية. في المقابل، فإن دراسة بلوخ تتفق مع منهجية المدرسة البنيوية في كونها تدرس أسبابًا داخلية، ولكن بطبيعة الحال فإن أسباب المدرسة البنيوية ليست مادية بل مفهومية لغوية.

يتسائل موريس بلوخ في واحدة من ورقته الهامة المعنونة بـ(ظهور الملكية ونهاية المصاهرة Property and the End of Affinity)، والتي ستكون أساسًا للنقاش في هذه المقالة، عن جدوى تطبيق المفاهيم الماركسية على المجتمعات ماقبل الصناعية، ويرى أن ذلك يتمثل في إشكاليتين رئيسيتين تتبع الأخيرة الأولى، وهم على النحو التالي :

  • ماهية البنى الفوقية superstructure والبنى التحتية infrastructure في تلك المجتمعات، بمعنى هل يمكن اعتبار القرابة كجزء من علاقات الانتاج وإعادة الانتاج، أي هل يمكن اعتبارها كجزء من البنى التحتية أم البنى الفوقية؟
  • إذا قبلنا ما يقرره ماركس، من كون البنى التحتية هي القوى المحركة للبنى الفوقية، فكيف تأُثر هذه القوى في المجتمعات التي تقع محل دراستنا ؟

يتقصى موريس إجابة السؤالين السابقين من خلال بحثه في طبيعة المُلكيّة، ومحوريتها بالنسبة إلى الموارد الإنتاجية productive resources. حيث أن العلاقة التي بين الملكية والقرابة والطبقية stratification تعتبر إشكالية معروفة في نطاق نظريات تطور المجتمعات.

يرى روسو أن شرعنة وبقاء مؤسسة المُلكيّة لا يمكن أن يحدث إلا بانعدام المساواة، في المقابل يرى مورجان أن أنظمة القرابة بأنواعها المختلفة ترتبط بعلاقة جوهرية مع أنماط الإنتاج. بحسب مورجان فإن التقدم في الأساليب الفنية والوسائل التكنولوجية وازديادها وتنوعها بحيث يتمكن الإنسان من أن يسيطر على البيئة التي يعيش فيها يؤدي إلى تقدم الثقافة والنظم الاجتماعية، وبالتالي يؤدي إلى تشكُل مؤسسة المُلكيّة.

بحسب إنجلز وماركس، تتمثل المُلكيّة من خلال الأيدولوجي كعلاقة تربط الناس بالأشياء، ولكن على المستوى المادي الملموس يتمثل ذلك من خلال العلاقات الاجتماعية. يرى المحامي هنري ماين أن القانون القديم ancient law قد دمج علاقات المُلكيّة وقانون الأشخاص the law of persons، فلم تصبح علاقات الملكية متجلية اجتماعيًا بشكل مستقل إلا في المجتمعات المتقدمة. وقد أشار هوهفيلد وجلوكمان وغودي في التأكيد على أن علاقات الملكية ليست سوى علاقات اجتماعية تعمل على الربط بين الناس، بمعنى أن أي عبارة تتضمن مُلكية شيءٍ ما أو حقوقًا معينة، هي عبارة تعبر عمّا يمكن فعله بين المالك والخادم أو المستأجر (الغير متملك) اذا خُرقت هذه الحقوق. وقد أكد هؤلاء الكتّاب بمعية جودينف على أن الملكية في المجتمعات ما قبل الصناعية تتمثل كنظام من العلاقات الاجتماعية.

ومن خلال ما تقدم، يبدو أن هناك شبه إجماع بين علماء الانثروبولوجيا الاجتماعية، على أمرين إثنين :

  • علاقات الملكية هي نوع من أنواع العلاقات الاجتماعية في كل المجتمعات.
  • تمثلت علاقات الملكية في المجتمعات ما قبل الصناعية بشكلٍ صحيح على ما هي عليه، ككل واحد يجتمع فيه قانون الأشخاص و علاقات الملكية.

ولذلك يرى بلوخ أن أمرًا ما يدعوا إلى الاستغراب هو أن سؤالًا ثالثًا لم يُطرح، بالإضافة إلى السؤالين أعلاه : ما هو النمط الكامن والمفقود في طبيعة المجتمعات التي تُمَثَّل فيه الملكية على نحو خاطئ كعلاقة بين الناس والأشياء، والتي بطبيعتها لا تحتاج إلى مثل هذا التمثيل؟

إن أحد الأسباب في عدم طرح مثل هذا السؤال شديد الوضوح، من وجهة نظر بلوخ، تقع في تقديم مفهوم “الحقوق” كبديل لمفهوم “الملكية”. يرى منظرو الأنثروبولوجيا الاجتماعية أن الشيوعية البدائية primitive communism وتباينها مع الملكية الخاصة private property ليس أمرًا مطلقًا كما ظن الكثير من الناس. فالملكية كانت دائمًا “حزمة من الحقوق”، والتباين ما بين المجتمعات الصناعية والبدائية/ماقبل الصناعية هو تباينٌ في الدرجة وليس النوع، أي أن الاختلاف ليس جوهريًا بل مرحليًا وكيفيًا. إن الحقوق في المجتمعات البدائية موزعة بين عدد كبير من الأفراد والمجموعات، بينما في المجتمعات الصناعية تكون مجمّعة مع بعضها البعض ومخصصة في فرد أو مجموعة واحدة. ولذلك فثمة استمرارية ما بين الوضع البدائي و المتقدم في المجتمعات الصناعية.

لقد وُجد مفهوم الحقوق في المجتمعين، الصناعي وما قبله، ولكن ليكون هذا المصطلح قابلًا للتطبيق على المستويين المادي والأيديولوجي، يلزم منه أن يكون المستوى الأيدولوجي تجليًا حقيقيًا للأسس المادية التي تقوم عليها حياة المجتمع محل الدراسة. إن التشابه في الشروط المادية في النُظم الملكية المختلفة، يجعل من الاختلاف في تمثلات الملكية في هذه المجتمعات، أمرًا أكثر تشويقًا للبحث والتقصي.

يحاول بلوخ في ورقته فهم هذه الإشكالية –التشابه في الشروط المادية، واختلاف نظم الملكية-، من خلال دراسته لمجتمعين ينتميان إلى حيز ثقافي متشابه إلى حد بعيد في مدغشقر، ولكن نظم الملكية لديهما تختلف بشكل واضح. يدرس بلوخ المجتمعين بمنهجية إعادة البناء التاريخية، والتي تشرح سر هذا الاختلاف؛ هذان المجتمعان هما :

  • الميرينا “Merina”: يحمل هذا المجتمع تصور مشابه لتصورنا عن الملكية، حيث يعبر أفراده بقولهم “هذه أرضي، ولذلك يجب علينا الزواج من الأقارب لنوحد أراضينا”، تعتبر المملتكات لديهم، وهي هنا الأرض، فاعلًا أكثر تأثيرًا في حياتهم من الناس.
  • الزافيمنياري “Zafimaniry”: يحمل هذا المجتمع تصورًا مختلفًا تمامًا عن السابق عن الملكية، فيعبر أفراده عن ذلك بقولهم “إذا قمت بقطع أشجار الغابة في منطقتي، عليك أن تعطيني العسل وتتبع قيادتي. وبالمثل، أفعل أنا إذا قمت بقطع الأشجار في منطقتك”، إن الممتلكات لديهم ليست لها أي أهمية، فقوفقًا للأيدولوجيا التي يحملونها، الممتلكات لديهم ليست إلا جزءًا من مجموعة من القوانين التي تنظم العلاقات الشخصية المتداخلة.

لقد شكلت التشابهات الثقافية لهذين المجتمعين مع الاختلاف في المنظومة الاقتصادية التي يعتمد عليها كلا المجتمعين، والمتمثلة في الزراعة، خاصيةً فريدةً من نوعها، وأمرًا شائقًا ومثيرًا للاختبار والدراسة لدى الكثير من الأنثروبولوجيين. عاش المجتمع الأول في هضبة مرفعة ومنبسطة تهطل عليها الأمطار لستة شهور من السنة، بينما عاش المجتمع الآخر وسط غابات تعمها الأشجار. أجاب بلوخ من خلال دراسته لهذين المجتمعين عن أثر التحول في أنماط الإنتاج على الطبيعة الثقافية للمجتمعات؟ أي ما يحدث عندما يتحول الأساس الاقتصادي الذي يقوم عليه المجتمع وكيف يؤثر ذلك على منظومة القرابة لديهم؟

 

مجتمع الميرينا

عاش المجتمع الميريني في هضبات مرتفعة، قليلة الأشجار، كثيرة الأمطار، واعتمد نمط الإنتاج لديهم على الزراعة البعلية –وهو نمط زراعي يعتمد على هطول الأمطار في فترة كبيرة من العام، ولذلك يُسمى أيضًا بالزراعة المطرية– للأرز irrigated rice cultivation. استصلح الميرينيون الجانب المنحدر من الهضبات التي عاشو عليها، وأقاموا مصاطبهم الزراعية على هذه المناطق شديدة الندرة. إن هذه الجوانب المنحدرة من الهضبات لا تخرج إلى الوجود إلى بعد عملٍ شاق لتحويلها إلى مصاطب زراعية، وبالتالي هذا يتطلب رأسَ مالٍ عالٍ جدًا، والذي يتمثل هنا بمُلكية الأرض، والتي استثمرت فيها الأجيال السابقة من هذا المجتمع لتجعلها ملكًا لما يتلوها من الأجيال، مما يضفي عليها طابعًا قداسيًا.

من العوامل المؤثرة الهامة في طبيعة الانتاج لدى الميرينا، على أنه لا يقع على نفس درجة الأهمية، مقارنة بأهمية الأرض ورأس المال، وهو العمالة. يعود سبب قلة أهمية العمالة في المنظومة الميرينية إلى وجود نظام العبودية في النظام الاجتماعي التقليدي، حيث اعتمد الميرينيون على خطف العمالة وتوظيفها في العمل في المزارع مما سمح لرجالها بأن يخوضوا المزيد من عمليات القتال التي تهدف لزيادة العمال. وبالتالي ينتج عن ذلك معادلة شديدة الأهمية في المنطومة الميرينية وهي : الأرض ورأس المال أشد أهمية من العمالة.

يتمحور نظام القرابة في المجتمع الميريني، بحسب التقاليد المتبعة لديهم، حول جماعات تسمى بالديمي deme : وهم ملاك المصاطـب الـزراعية. العجيب في هذه المجموعات أن رمز الاستمرارية لديهم يشخص ببصره إلى المستقبل بدلًا من الماضي. حيث يدفن هؤلاء موتاهم في مقابر tombs في المناطق التي تقع تحت سيطرتهم. ومن هنا، فإن عضوية الديمي في الأيدولوجية الميرينية هي علاقة تربط بين الناس والأرض. حيث يرتبط هؤلاء مع الأرض من خلال الجثث المدفونة لأسلافهم، فتعتبر الأرض هنا إرثًا سلافيًا أو ما يطلقون عليه أرض الأجداد (التانيندرازانو Tanindrazanu).

يعزز نمط الزواج الداخلي endogamy المتبع لدى هذا المجتمع من الارتباط بالأرض، أو يمكن أن نعتبر الميكانزمات المتبعة في أنظمة الزواج هي تجلٍ أو أثرًا مباشرًا لأيديولوجيتهم التي تربطهم بالأرض. حيث يعتبر الزواج الداخلي والارتباط بذوي القرابة في الديمي، حماية للإرث وحفظًا لرأس المال، فأي طفل من خارج القبيلة يعتبر خطرًا يهدد بانفراط عقد الملكية وتسربه إلى الخارج/الغير.

هناك حقيقتين تنتجان بشكل مباشر مما تقدم، أو تحديدًا من حقيقة عُلو مفهوم الارتباط بالأرض على العمالة/الناس:

  • اندماج القرابة والمصاهرة، وبذلك يغدو الفرد في هذا المجتمع لا يعرف إلا أقربائه، وكل من هم خارج القبيلة غرباء outsiders. فمنظومة المصاهرة كأداة لتكوين التحالفات السياسية وتوحيد القبائل غائية لدى مجتمع الميريني. حيث يصبح الأقارب والجيران والأصهار، وحدةً كلية تتمثل في مفهوم الهافانا Havana، وجميع من هم غير ذلك الفاهيني vahiny. إن النتيجة الطبيعية التي تؤدي إليها هذه المفاهيم هي استحالة تحول الفاهيني إلى الهافانا، بمعنى استحالة دخول أفراد من خارج القبيلة إليها. إن تمحور نظام الملكية حول الأرض في مجتمع المريني أنتج انعزالًا تامًا لهذا المجتمع.
  • إن العزلة التي يخضع لها المجتمع، والتي كرستها منظومة الزواج الداخلي، أنتجت اختلاطًا في دعاوى الإرث، حيث يصبح بعد عدة أجيال من الزواج الداخلي، الجميع له الحق في الأرض. أدى ذلك أيضًا، إلى النظر إلى فردانية الأسرة النووية كأمرٌ معادٍ للعقد الاجتماعي antisocial، فالوجود الفردي في المنظومة المنظومة المحلية يشكل في حد ذاته شكلًا من أشكال التهديد للعقد الاجتماعي.

إن الملكية بحسب موريس بلوخ تعتبر جزءًا من البنية الفوقية، وبالتالي عند الحديث عن الملكية فأنت تتحدث ضمنيًا عن الإنتاج، وهي أيضًا –أي الملكية– تمثيلٌ خاطئ له في مجتمع الميرينا. إن العلاقة التي تربط الملكية بالقرابة هي بين وجهين للبنية الفوقية، وليست بين البنية الفوقية والبنية التحتية.

 

مجتمع الزافمينياري

يعتمد المجتمع الزافمينياري على الزراعة المتنقلة، وهي نمط زراعي يقوم على تمشيط مساحة كبيرة بقطع الأشجار وحرقها، ومن ثم زراعة هذه المنطقة، وهو نمط معاكس تمامًا للزراعة البعلية التي تعتمد على توفر الأراضي التي يتوفر فيها المناخ المناسب. هذا النمط الإقتصادي الذي يعتمد فيه الانتاج على العمالة وليس على الأرض، فالعمالة هنا هي من نتنج الأرض. مما يميز هذا النمط أيضًا، أن الاستثمار الزراعي فيه يكون لفترات قصيرة، بعكس الزراعة البعلية الذي يمتد الاستثمار الزراعي فيه لقرن أو أكثر. يجعل ذلك العمالة عاملًا مركزيًا، حيث يقوم نمط الانتاج، وبالتالي المنظومة الاقتصادية، بشكل أساسي على توفر أكبر قدر ممكن من العمالة.

إن الأرض في المنظومة الثقافية لدى المجتمع الزافمينياري ليست ملكيةً موروثة، حيث يزرع أفراد القبيلة منطقة بعد تمشيطها، ويتركونها وينتقلون إلى منطقة أخرى ليفعلون بها مثلما فعلوا في سابقتها وهكذا؛ ومن ثم يعودون إلى أول منطقة استصلحوها عندما يحين موسم حصادها – ومن هنا أتت صفة التنقل في التسمية. يتضح مما تقدم، الأهمية المحورية للعمالة، والمحدد الذي يبرز العمالة كعامل حاسم ورئيسي هو الطبيعة البيئية والتقنية المتبعة في العملية الزراعية لدى هذا المجتمع، مما يجعل علاقات الملكية تمثلًا لمجموعة من الروابط والعلاقات الاجتماعية، فوجود الأرض يستلزم حضورًا دائمًا للعمالة. إن المجتمع الزافمينياري لا يعتمد على العبيد، فالعمال في الأرض هم أعضاء المجتمع ومن ثم فمجموع المحصول يتوزع على أفراد القبيلة بالتساوي، أي أن كل فرد من أفراد القبيلة هو مالك وفي نفس الوقت عامل في الأرض، فالنمط الإنتاجي هو عبارة عن علاقات شخصية متداخلة، مما يؤدي بوضوح إلى المعادلة التالية : العمالة أشد أهمية من رأس المال/الأرض.

مما تقدم ينتج انعدام لوجود تقسيمات داخلية ناتجة عن طبيعة الأعمال الموكلة لدى الأفراد عند الزافمينيارين، فليس لديهم كلمة أو اصطلاح خاص بالعمالة labor، حيث الجميع مرتبطون بروابط قرابية بشكل أو بآخر داخل المجتمع. إن طبيعة النمط الإنتاجي التي يقوم عليها النظام الاقتصادي لديهم، جعلت التشديد على التحالفات السياسية عن طريق المصاهرة نمط الزواج السائد، والذي يجعل دخول الغرباء للمجتمع أمرًا محبذًا ومرغوب، وبالتالي إمكان تحول الغرباء إلى أقرباء عن طريق المصاهرة، بعكس ما لدى الميرينيين. الأمر الذي أنتج التركيز على القدرات المحلية واستثمارها كقوة مستقلة لدى الزافمينياريين.

 

التحولات

من الأسئلة المركزية التي حاول موريس بلوخ الإجابة عنها، هي آثار التحول من المجتمع الميريني إلى المجتمع الزافمينياري، أو آثار التحول في أنماط الإنتاج والمنظومة الاقتصادي في مجتمعٍ ما على نظام القرابة. وقام باستحضار حالات تاريخية انجبر فيها الزافمينياريين إلى التحول إلى استخدام الزراعة البعلية نتيجة الضغط السكاني وقلة الأراضي الصالحة للزراعة بعد عمليات الحرق المستمرة التي تؤثر على التربة، وبالمثل انجبر المرينيين إلى استخدام الزراعة المتنقلة بعدما اضطروا إلى التخلي عن مناطقهم عن طريق حملات عسكرية من المستعمرين.

يشير موريس بلوخ إلى أن الحالة الزافمينيارية التي درسها أفصحت عن تبدلٍ واضحٍ في أنماط القرابة، بعدما تغير نمط الانتاج لديها، فأصبح الزواج مرتبطٌا بشكل أكبر بتوريث الممتلكات، وأصبح نمط المصاهرة والقرابة المفتوحين يتحولان إلى حالة منعزلة. يتنبأ بلوخ بأن ذلك سينتج مع الوقت حالة ميرينية بشكل شبه ميكانيكي بدون أي تأثير على التصورات أو المبادئ الأخلاقية. أما في الحالة الميرينية، فقد كان التحول إلى الحالة الزافمينيارية أمرًا شديد الصعوبة، فقد صمدت منظومة التفرقة بين الداخل والخارج، كمسألة أخلاقية تجاوزها شديد الصعوبة. فقد أصبح الفرد الميريني يعيش حياة مزدوجة فهو مضطر إلى التعامل مع الغريب/الفاهيني كشريك عمل أو حليف بسبب ضغط نمط الانتاج الجديد، ولكنه عندما يختلي إلى أهله وجماعته يعود فينكر تلك الشراكة والتحالف السياسي الجديد.

 

خلاصات

  • في الاجابة على السؤال الأول : “تحت أي ظروف تتمثل الملكية على نحو خاطئ كعلاقة بين الناس والأشياء؟”

يرى موريس أن الملكية تتمثل على هذا النحو بسبب عدم المساواة inequality. وذلك ناتجٌ عن أن النظام السياسي لا يتحكم به العمال، بل سلطته في يد غيرهم. إن هذه الحقيقة لا تحدث إلا كلازمٌ عن التأثيرات الاجتماعية لتكنولوجيا الإنتاج، وهذا يجعل تمثل الإنتاج كثمرة عن الملكية، لا عن العمال، أمرًا طبيعيًا ومفهومًا. وهذا هو الحادث في الحالة الميرينية.

  • في الإجابة على السؤال الثاني : “هل القرابة جزءٌ من البنية التحتية في المجتمعات قبل-الصناعية؟”

تكون المنظومة الاقتصادية المجتمعية (أي أنماط ووسائل انتاج المجتمع) جزءًا من البنية الفوقية في أنماط الإنتاج الرأسمالية، كما هو الحاصل في الحالة الميرينية، حيث أن أنماط الإنتاج لا تنعكس في المنظومة القرابية، بل تتمثل كعلاقات ملكية. بينما في المجتمع الزافمينياري تنعكس أنماط الانتاج في المنظومة القرابية، حيث أن الأسس التي تقوم عليها أنماط الانتاج تتمثل كعلاقات قرابية مجتمعية تربط الأفراد ببعضهم البعض. إن نظام القرابة في المجتمع الميريني يعتبر جزءًا من البنية الفوقية، بينما في المجتمع الزافمينياري يعتبر جزءًا من البنية التحتية، وسبب ذلك الاختلاف يقع في موضع نظام العبودية في المنظومة الاجتماعية في السياق الانتاجي الميريني.

  • في الإجابة على السؤال الثالث : “كيف تتحدد نظم القرابة بناءًا على أسسٍ مادية في المجتمع؟”

لأن نظام القرابة في المجتمع الزافمينياري هو في نفسه جزءٌ من أنماط الانتاج، فأي تغيير في أنماط الانتاج ينتج عنه تغيرًا في أنماط القرابة. بينما التغير في أنماط الإنتاج لدى المجتمع الميريني يؤثر على نظام القرابة بطريقة جدلية غير مباشرة. إن تأثير التغير في أنماط الانتاج على البنية الفوقية، لا يمكن فهمه إلا وفقًا لرؤية تجليات البنية الفوقية بطريقة منفصلة عن تجليات البنية التحتية. في الحالة الميرينية، التغير الحاصل على النظام الميريني، يمكن أيضًا فهمه كنتيجة عن التغير في أنماط الانتاج، ولكن ذلك لا يكون إلا بشكلٍ ضمنيٍ وغير مباشر. إن أنماط الانتاج ونظام القرابة لدى المجتمع الميريني يعتبران جزءًا من البنية الفوقية، ولذلك التأثير لا يكون مباشرًا، وسبب ذلك كما بينّا أعلاه وجود نظام العبودية في المنظومة الاجتماعية.

 

هوامش
1- الانثوغرافيا هي الدراسات التي تهتم بوصف أنماط المعيشة والحياة عند الشعوب أو المجتمعات بشكلٍ دقيق.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.