المهمشون الحضريون والجهاد في الشرق الأوسط

10525737_1481613252083610_2524812088013407980_n
كاتب المقال
: محمد تركي الربيعو

ثمة فرضية أساسية تقف خلف بعض سرديات النزعة الاسلامية الجهادية ، مفادها أن هناك علاقة ايكولوجية ثقافية حضرية بين هذه النزعة  والوسط المعيشي الفكري لفقراء الحضر .  حيث ما يزال يعتقد أن الفقر الحضري و تركز الفقراء في المجتمعات الفقيرة المكتظة المشحونة باللامعيارية والاغتراب يؤدي الى توليد وسط معيشي مشحون بالعنف والميل إلى عدم طاعة القانون والتطرف ، و أن النزعة الاسلامية المتشددة  تظهر من ثنايا الشعور بفقدان الأمل و التحلل الأخلاقي لتعطي تعبيرا دينيا عن هذا النمط من الحياة . وفي الوقت نفسه فان الشعور العميق بالتدين و الرغبات الشعبية و اللغة المشتركة و المؤسسات و الحنين الى النزعة التقليدية ، كل ذلك يؤدي الى أن يتعانق الفقر الحضري مع النزعة الاسلامية و يصبح الطرفان حليفين استراتيجيين .

و قد أخذ  هذا النمط من التفكير يجد لنفسه صدى في وسائل الاتصال الجماهيري الأكثر انتشارا ، و التي تسلم بالرابطة بين الايكولوجية الحضرية والتطرف الديني في العالم الاسلامي.و بين الهجرة الريفية و النزعة الاسلامية ، و الفقر و العنف ، أو نقص المساكن ( وخصوصيتها) في جو من القهر الأخلاقي و الإحباط الجنسي الذي يجعل الشباب الفقراء يلجأون الى العنف و التطرف.

ضمن هذا السياق، يتساءل السوسيولوجي الإيراني آصف بيات – الذي يعد اليوم واحدا من أهم علماء السوسيولوجيا حيال الحياة اليومية في الشرق الأوسط-  في كتابه المتميز التي ترجم حديثا للعربية  “الحياة سياسة : كيف يغير بسطاء الناس  الشرق الأوسط” ,  هل هناك ايكولوجيا حضرية للنزعة الإسلامية الجهادية؟ و هل هناك توافق ضروري بين الوجود الإجتماعي للمهمشين الحضريين و الأيديولوجيات الدينية الراديكالية؟ و هل يشكل المهمشون الحضريون المركز الطبيعي للممارسات السياسية الاسلامية ؟

و للإجابة عن هذه التساؤلات ، يرى بيات  أن النزعة الراديكالية الاسلامية بشكل عام لا تبدي اهتماما سياسيا أو أخلاقيا بفقراء الحضر ، كما أن فقراء الحضر لم يعبروا عن التزام أيديولوجي  “بالممارسات السياسية”  ذات النزعة الاسلامية، تلك الممارسات التي ظلت بعيدة عن النهر اليومي لحياة الشعب . ذلك  أن النزعة الاسلامية الاصلاحية والجهادية هي حركة للطبقة الوسطى و تنشغل في الأساس بالممارسات السياسية و الأخلاقية و بصور النضال الأيديولوجي ، و من ثم فانها تفشل في أن تعمل كحركة اجتماعية معبرة عن الفئات المحرومة من الحضر ، كما أن فقراء الحضر يميلون الى اتباع تدينهم الشعبي و الى حياتهم غير الرسمية  التي تقوم على العلاقات الشخصية الحميمة في الحياة اليومية ، عبر تحررهم من الولاءات الأيديولوجية.7

الفقراء المسلمون : الايكولوجية الحضرية للعنف(القاهرة ،طهران):

و يرى بيات ، أنه في الوقت الذي يوجد فيه تصور كلاسيكي ، غالبا ما تتبناه النخب السياسية والفكرية، ينظر الى فقراء الحضر في مجتمعات الشرق الأوسط الإسلامية على أنهم يشكلون جماهير سلبية ، الا أن وجهة النظر الأكثر قوة و الأكثر حداثة تعكس قلقا عميقا حول ما يمكن أن يلعبه الدور النشط و الخطير لفقراء الحضر ، في الحد من الحضرية الحديثة و المدنية السياسية ، ممهدا الطريق للتطرف الاسلامي .

و لذلك نجد أن  بعض الأكاديمييين يميلون  الى النظر للعشوائيات باعتبارها مكانا للفوضى النظامية بالمعنى الهوبزي ، حيث تنتشر الجريمة و عدم الالتزام بالقوانين و التطرف ، و الذي يفرز  “ثقافة العنف”  و الأساليب  ” الشاذة ”  في الحياة ، وهي التربة الخصبة لنمو الأصولية الاسلامية . و بالرغم من أن هناك بعضا من الحقيقة في هذه السرديات النظرية  من حيث تمركز  الفقراء الحضريين  في الأحياء العشوائية ، تلك الأحياء التي وجد فيها المتشددون الإسلامويون مكانا يأويهم، فان  “جدالية التقارب”  بين الفقر والتطرف تبقى- برأيه-  تعاني في جانب كبير منها على استدلال بنائي يرتبط باقتراحات ضمنية تعاني من اشكالية امبيريقية.  فمثلا نجد أن الفقراء في ايران قد ظلوا بمعزل عن الثورة الاسلامية التي كان المشاركون الأساسيون فيها ينتمون الى الطبقة الوسطى الحضرية ، و الطلاب ، و موظفي الحكومة و التجار ، و أصحاب المحلات التجارية ، و عمال الصناعة . و ما  انضم الفقراء للثورة الا في  مراحلها الأخيرة ،و لم يتحركوا من خلال المساجد أو الحسينيات ، و إنما من خلال الأنشطة التي قامت بها الجمعيات التعاونية و الإستهلاكية و خاصة المجالس المحلية ، و التي من خلالها استطاع شباب الطبقة الوسطى أن ينقل خبرة الثورة إلى الأحياء الفقيرة عن طريق تقديم السلع الرئيسية و الوقود ، في وقت شهدت فيه البلاد نقصا شديدا بسبب الإضراب العام الذي عطل الإنتاج و التوزيع.

أما في مصر ،فان الإدعاءات حول الإندماج بين النزعة الإسلاموية و فقراء الحضر غالبا ما اعتمدت على فرضيتين : الأولى ، ذهبت الى القول بأن النشطاء الإسلامويين يقومون بتعبئة الفقراء من خلال المساجد و الجمعيات الإسلامية ، و الثانية اعتبرت  أن النشطاء أنفسهم ينحدرون على نحو كبير من الأحياء المهمشة في المدن الكبيرة ، تلك الأحياء التي تتميز أو تتصف بوجود ايكولوجيا اجتماعية تغذى الأنشطة و الأيديولوجيات المتطرفة و المنحرفة.

و الأمر الذي اضيف لهذه الخرافة  التدخل  “العلمي”  الذي تلى ذلك من جانب  “جماعة الخبراء” ( علماء الاجتماع ، و علماء الجريمة، و الصحفيون ) الذين ربطوا بين ظهور النزعة الاسلامية المتشددة و العنف مع انتشار العشوائيات . و الحقيقة أن هؤلاء الخبراء قد شكلوا ظهيرا فكريا لهذا الارتباط بين تاريخ الفقر الحضري و الإسلام السياسي . مع أن الواقع كان أكثر تعقيدا من ذلك .

و بحسب بيات فانه رغم تواجد و عيش كثير من المتشددين  الإسلاميين في العشوائيات ، فان ذلك لا يؤشر بالضرورة على وجود استراتيجية  لتحريك الفقراء. فالمتشددون ببساطة ، مثلهم مثل العديد من أعضاء الطبقة الوسطى  ، لا يملكون خيارات كثيرة عندما يكون الأمر مرتبطا بمعيشتهم . فنقص الإسكان بأسعار معقولة قد أدى الى ظهور طبقة متوسطة مهمشة و هي ظاهرة حضرية وسمت ديناميات التوزيع المكاني للطبقة الوسطى في كثير من المدن في جنوب العالم .

و من جانب اخر فان حقيقة أن الإسلاميين  المتشددين قد اخترقوا الجمعيات الخيرية ، تعد مبالغة في الغالب . فمن بين الاف المنظمات غير الحكومية الدينية لا يوجد سوى النزر اليسير الذي يقع تحت تأثير الإسلاميين السياسيين المتشددين ،كما أن العديد من الدراسات قد كشفت على أن الدافع وراء الكثير من العيادات الإسلامية في القاهرة ، بما فيها الأطباء ، لم يكن التزاما دينيا بقدر ما كان فرصة مهنية . فالجمعيات الإسلامية غالبا ما تقدم للممرضات و هي مهنة لا تتمتع بمكانة عالية، مكانا للعمل ، كما تمنحهن الاحترام في نظر المجتمع المحلي .

 الفقراء والحداثة( الحياة غير الرسمية):

و لذلك  يمكننا القول اليوم – بحسب بيات-  أن  النمط الاجتماعي الثقافي الرئيسي بين فقراء المسلمين في الشرق الاوسط ، لم يعد هو النمط المرتبط ب ” ثقافة الفقر”  بل هو نمط بات يرتبط “بالحياة غير الرسمية” ،  والتي أخذ  يتبعها سكان المجتمعات العشوائية و الفقيرة في عملهم و حيواتهم الثقافية . حيث يقوم هذا النمط  على مفاهيم  التبادلية ، و التفاوض ، و الثقة ، و ليس على الأفكار الحديثة للمصلحة الذاتية الفردية ، و القواعد الثابتة و التعاقدات . و لذلك نجدهم  يميلون الى أن يعملوا بشكل مستقل و أن يعتمدوا على أساليب تسوية النزاع غير الرسمية بدلا من ابلاغ الشرطة ، كما أنهم من الممكن أن يقترضوا من جمعيات ائتمان غير رسمية و ليس من البنوك .

و كل ذلك يحدث ليس بسبب أن هؤلاء الناس يعادون بالضرورة النظام الحديث ، و لكن بسبب أن ظروف وجودهم دفعتهم للبحث عن أسلوب حياة غير رسمي ، و خاصة أن الحداثة هي مشروع مكلف ، أي أنها تتطلب القدرة على التكيف مع أنماط السلوك ( الالتزام بوقت محدد ، و مكان ، و عقود) و هي أشياء لا يقدر عليها الفقراء ، كما أن الإيديولوجيا تتطلب قدرات معينة ( الوقت ، المخاطرة ، المال ) و هو ما لا يملكه المحرومون .

و لذلك نجد ان المحرومين في الحضر لا يستطيعون الا الإنخراط فيما يطلق عليه  الكاتب  “السياسة من المستوى الأدنى” ، أو أشكال النضال المحلية من أجل تحقيق أغراض يومية سريعة  بعيدة عن مشاريع الأدلجة ( الإسلامية أو العلمانية). فبالنسبة للمحرومين ، تكون هذه النضالات المحلية ، هي الأفكار ذات المعنى ، و الأفكار التي يمكن التعامل معها .

المصدر القدس العربي

http://www.alquds.uk/?p=367283

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.