المخيلة السوسيولوجية – تكوين الباحث

اsiلمخيلة السوسيولوجية (sociological imagination) هي السمة الأساسية في تكوين الباحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي ! ويمكن تعريفها بأنها رؤية الذاتي ضمن السياق المجتمعي ! وهذا سيتوضح بعد قليل .

لقد أسس سي رايت ميلز (C. Wright Mills) لهذا المصطلح إعتماداً على قراءة للمؤسّسين : دوركهايم (Émile Durkheim) ، ماركس (Karl Marx) ، وفيبر (Max Weber) ! ما الذي إمتلكوه مختلفاً عن غيرهم !

ما الذي جعل دوركهايم مثلاً ، يكتشف مفهوم التكامل الإجتماعي (social integration) ، ليعتبره أساس نقاشه حول الإنتحار ، فيرتبط به سلبياً (negatively correlated) ، كـلـما نـقـص الأول ، زادت نسبة الأخير – أي كلما نقص التكامل الإجتماعي ، كلما زادت نسبة الإنتحار – !

هنا يؤكد “ميلز” أن الأساس هو هذه السمة التي تميز الباحث عن غيره !

هي من تميز فروض/نظريات الباحث المتخصص عن آراء غيره !

وقد وضع ميلز تعريفاً واسعاً لها : هي ما يسمح لنا في فهم التاريخ العام والسيرة الذاتية والعلاقة بينهما ضمن المجتمع ! وهكذا (يوضّح ميلز) يمكن للفرد أن يفهم تـجـاربـه الشــــخـصـيـة عبر موضعـة نفسـه ضمن حقبـة زمنيـة وســياق مجتمعي ![1]

وسيتوضح هذا إذا تأملنا “سلوك شرب الشاي” مثلاً !

هل هو فردي ؟ ثنائي ؟ أم جماعي ؟!

طبيعة الحديث الذي يتم إستلهامه من الشاي (ومن جلسته) ؟ أيختلف عن جلسة القهوة مثلاً ؟!

الوقت الذي يتم شرب الشاي فيه ؟

مع ماذا نتناوله ؟!

وهذا مجرد تمهيد للفكرة …

هناك بعد إقتصادي ، مرتبط ببلد الإنتاج ! وضمنه يتراوح تسلسل الأفكار من أصحاب الإحتكار ، إلى التفاصيل الحياتية اليومية للمزارعين والقاطفين ! ومنها يمكن رؤية طقوس القطاف ، كما البنية الإجتماعية ضمن القرى ، وعادات الزواج وتأسيس العائلة ، نسبة الإنجاب ، والتفضيل الجندري ، ويمكن أن يتجه البحث صوب حركة النزوح ومدن الصفيح ، والفقر ، مرتبطاً بحالة المناخ والجفاف ، ومعدّل المتساقطات …

هذا يعني أن الشبكة التي تتفعّل ، تنشط بإتجاهات متعددة ، قابلة للتكميم ، كما يمكن أن تدرس نوعياً ! وهذا خاضع للمنظور الذي من خلاله يريد الباحث توصيف “سلوك شرب الشاي” … كما للمصادر المتوفرة !

كما يمكن أن يعتمد أمام كل تفصيل ضمن الشــــبـكـة ، أســلوب النقاش المقارن ، وهو من الأساليب المحبذة عند الأنثروبولوجيين !

هذا البعد الإقتصادي مرتبط أيضاً بالتصدير ، البورصة ، الدولة المستوردة ، حركة رأس المال ، وسياسة العرض والطلب ! حتى يصل إلى المستهلك ! وكله يحوي نظرة ميكروية أو ماكروية …

هذا البعد – كما تبين سابقاً – يمكن له أن يمتد لأبعاد إجتماعية وثقافية ، حيث يتم تخطي الحدود بين العلوم ليكون بينياً (ومتعدداً) ، وهذا ما يشكل عمق الباحث الذي إمتلك هذه الخاصية عن غيره !

وهناك البعد الثقافي ، المرتبط بطقوس شرب الشاي ، الأواني والكؤوس ، تحليته بالعسل ، السكر ، المحليات الصناعية أو بدون تحلية ! ومن هذه الفكرة تتشعب التفاصيل إلى فكرة المرض ، والمريض ، ومؤسسات الإستشفاء ، وإحتكار الدواء ، كما إلى النحل وأنواع العسل ، والتمور (التي يستخدمها البعض كتحلية) .. ومن هو متخصص بصنعه ! طريقة صنعه ، ومدة غليانه !

وكل نقطة لها إمتدادات مختلفة وشبكة تتفعّل تبعاً للباحث ومعارفه !

وهناك البعد الإجتماعي ، من حيث طبيعة العلاقات الإجتماعية التي تنبني حول هذا السلوك ، من يدعو ويستضيف من ؟ ولماذا ؟ هل يعتبر من أساسيات الضيافة ؟ هل يرتبط بالفرح أم الترح ؟!

وهناك أيضاً بعد تاريخي ، متعلق ببداية إنتشار الشاي ، ولاحقاً سلوك شربه ، وسببية إعتماده ، وطبيعة القوى التي ساعدت على إنتشاره ، وعلاقات الإستغلال للمزارعين – خصوصاً إذا كانت النشأة إستعمارية ، والمستغَلّين مستعبدين !

هنا ، يتلقف الباحث ، سلوكاً بسيطاً كشرب الشاي ، ليتناسل منه صراع المستضعفين مع المستكبرين ! وأيضاً اللُّحمة الإجتماعية التي تربط المتزاورين ، وطبيعة الأحاديث التي يتم تشكيل الواقع فيها مجدداً عند كل لقاء ، مما ينتج حقيقة متخيلة لكنها مشتركة ! وفيها ترتبط المكانة بالدور ، حيث يمارس كل فاعل دوره ضمن هيكلية إفتراضية ، قد تتغير مع دخول غريب ، أو حتى عند كل لقاء !!

ولا ننسى السياق الثقافي المرتبط بالمقاهي الشعبية ، وإعتمادها على الشاي كمشروب ، مما سمح بتعميمه ، وإنتقاله ليصبح أسلوب حياة !

الباحث ، أمام سلوك شرب الشاي ، لا يهتم (فقط) بهذا السلوك الذاتي/الفردي ، بل يضعه ضمن سياق مجتمعي أوسع !

وحتى لو لم يسلط الباحث كشافاته عليها جميعاً ، أو لم يتابعها كلها بالعمق ذاته … إلا أن هذا السياق المتكامل ، هو ما يعطي البحث نكهته ، والباحث تميزه ! وهذا يحدث فقط ، عندما يستكمل الباحث تكوينه عبر تحويل المخيلة السوسيولوجية إلى دُرْبة لتصبح لاحقاً مَلَكَة !

[1] Mills, C. Wright (2000). The Sociological Imagination (14th ed., p. 5, 6). NY: Oxford.

رأي واحد حول “المخيلة السوسيولوجية – تكوين الباحث”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.