الزوايا، المجتمع والسلطة بالمغرب : مقاربة سوسيو-أنثروبولوجية

محمد جحاح*

زاوية

يتركز موضوع هذا البحث-الذي يقع في 820 صفحة (بجزئيه الأول والثاني)- حول ظاهرة الزوايا بالمجتمع المغربي، وهي ظاهرة لها أهميتها بالطبع وأصالتها التي تستمدها من عمق تجذرها في بنيات هذا المجتمع، وفي تاريخه الديني والسياسي. وانسجاما مع الإشكالية المطروحة للبحث، فإن أهمية الزوايا تتأكد بالنظر إلى ما اضطلع به هذا التنظيم الديني-السياسي من أدوار اجتماعية وسياسية حاسمة، في سياق مغرب ما قبل المرحلة الكولونيالية.

هذه الفترة من تاريخ المغرب، التي ستعرف- وكما تطلعنا المصادر التاريخية- مجموعة من الأحداث والوقائع السياسية التي تشهد  بتأزم العلاقة، وعلى مستويات عدة، بين السلطة والمجتمع. وهنا بالذات ومن هذا المنطلق، سيرتبط تاريخ الزوايا وبشكل وثيق، بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للمغرب الماقبل كولوينالي، بحيث شكلت في هذا الإطار قوة سياسية وازنة، استطاعت أن تفرض نفسها على المخزن (كسلطة محلية قائمة بذاتها) تسندها قاعدة قبلية عريضة.

وقد استفادت الزوايا في ذلك-وعلاوة على تنظيماتها المتجذرة من ذلك الامتياز الإيديولوجي القوي الذي كانت تمنحه إياها فكرة الانتماء الشرفاوي، ولا يخفى في هذا الإطار ما كانت تشكله من خطورة حقيقية على المخزن،  باعتبارها القوة السياسية الوحيدة التي كانت تنافسه في إحدى أهم رموز مشروعيته السياسية؛ ونعني بالطبع  (الإيديولوجية الشرفاوية) القائمة على فكرة الانتساب إلى آل البيت : فكل من السلطان وشيخ الزاوية يعتبر شريفا، تربطه قرابة دموية بنبي الأمة.

لعل هذا ما يمكن التأكد منه على ضوء التجربة التاريخية للزاوية الخمليشية (موضوع دراستنا)، والتي نرى فيها نموذجا لغيرها من الزوايا في هذا الإطار. فقد شكلت هذه الأخيرة، منذ تأسيسها على يد الشيخ “سيدي يحيى خمليش” أواخر القرن 17م وإلى حدود الربع الأول من القرن 20م أكبر قوة روحية وسياسية على مستوى المجتمع الريفي؛ ولا أدل على ذلك من كونها كانت تؤطر إحدى أوسع وأقوى التكتلات القبلية بالمنطقة، والأمر يتعلق بكونفدرالية قبائل “صنهاجة السراير” التي كانت تشغل بقبائلها معظم مجال الريف الأوسط. وفي هذا الإطار، فقد كان شيخ الزاوية الخمليشية، وعلاوة على وضعه الروحي المتميز، بمثابة القائد السياسي والعسكري لهذه الكونفدرالية، ولعل هذا ما أعطى للزاوية خصوصيتها وتميزها، ولنشاطاتها بعدا سياسيا قويا وواضح المعالم، وربما هذا ما شجعنا أكثر على دراسة هذه الزاوية، وكان الدافع الأكبر نحو اختيار إشكالية البحث.

في الواقع، إن أهمية موضوع الزوايا وقيمته العلمية في اعتقادنا، تتأكدان أكثر بالنظر طبعا إلى راهنية بعض الأسئلة والقضايا الأساسية التي طرحت وماتزال على مستوى إشكالية السلطة، وطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في مغرب الأمس واليوم. وإذا كنا قد حددنا إشكالية هذا البحث-(كإشكالية سلطة بالأساس)-، وحصرناها في نطاق واقع العلاقة بين الزوايا (كسلطة محلية) والمخزن (كسلطة مركزية) في مجتمع المغرب الماقبل كولونيالي؛ فهذا لا يعفينا بالطبع من إبراز بعض الجوانب والقضايا النظرية والسياسية التي قد يثيدها – تصورنا– موضوع الزوايا على مستوى الراهن السياسي، والتي لا يمكن فهمها وتأطيرها إلا على ضوء الإشكالية المطروحة في إطار هذا البحث. ونكتفي هنا بتسجيل بعض الملاحظات التي تدعم بشكل أو بآخر ما قلناه.

فمن جهة قد تبدو ضرورة البحث في موضوع الزوايا، وأهميته النظرية والسياسية اليوم، كلما تأملنا الحقل السياسي المغربي بإمعان، وحاولنا الوقوف عن قرب على حقيقة ذلك الإرث التاريخي- الذي ما تزال تمثله امتداداتها الإيديولوجية والتنظيمية- على مستوى تقاليد اللعبة السياسية بالمغرب. ولعل هذا ما تعكسه بصدق تركيبة النسق السياسي المغربي، وطبيعته المزدوجة (تقليدي/ حداثي) : سواء تعلق الأمر بآليات وميكانيزمات اشتغال هذا النسق، أو بمصادر الشرعية والمشروعية السياسية، أو على مستوى سلوكات الفاعلين السياسيين إلخ. وفي هذا الإطار، لا يمكن نفي أو تجاهل ذلك الإرث التاريخي الثقيل والمزعج : فسواء تعلق الأمر بالأحزاب السياسية، حيث يرى البعض بأنها مجرد امتداد طبيعي لتنظيم الزوايا : (أطروحةP.Rizitte  حول الأحزاب السياسية بالمغرب). أو تعلق الأمر بالمؤسسة الملكية التي تستمد معظم رموز شرعيتها ومشروعيتها أيضا، من صلب هذا التنظيم : (الإيديولوجية الشرفاوية، الطبيعة التحكيمية لشخص الملك إلخ). وفي نفس السياق أيضا، فقد شبه (جون واتربوري) في أطروحته حول (المؤسسة الملكية والنخبة السياسية بالمغرب)، وضعية الملك في إطار علاقته بالأحزاب السياسية، برئيس  زاوية كبرى مهمته “التحكيم” بين الفرقاء  السياسيين، وضبط التوازنات العامة داخل البلاد. وحتى على مستوى تنظيمات الإسلام السياسي أيضا : (جماعة العدل والإحسان نموذجا)، قد نجد هناك استمرارية قوية لبعض الثوابت التنظيمية والإيديولوجية المتوارثة عن تنظيم الزوايا (الزاوية البودشيشية تحديدا)، خاصة فيما يتعلق  بطبيعة العلاقة بين (الشيخ ومريديه). بل أكثر من ذلك، فهناك من الباحثين من يسحب هذه الخطاطة (شيخ/ مريد) على كل النسق السياسي المغربي، كنسق سلطة قائم على مفاهيم : (البركة، الطاعة، الخدمة والولاء)؛ وهي مفاهيم لها تجذرها من داخل المرجعية الصوفية (نعني هنا أطروحة عبد الله حمودي : “الشيخ والمريد.”).

بعد تسجيل هذه الملاحظات، ما الذي يمكن قوله إذن، بخصوص الإشكالية التي يتناولها هذا البحث.

1-إشكالية البحث.

تعتبر إشكالية الدولة في علاقتها بالمجتمع، من أعقد وأوسع الإشكاليات التي يطرحها واقع البحث في التاريخ السياسي للمغرب، خاصة إذا كان الأمر يتعلق- وكما هو الشأن بخصوص إشكالية هذا البحث- برصد واقع وتجليات هذه العلاقة في سياق مغرب ما قبل الاستعمار. وتبدو أهمية البحث في هذه المرحلة من تاريخ المغرب السياسي، في كونها تشكل المدخل لفهم ما جرى ويجري من علائق وتفاعلات بين الدولة كجهازسلطة مركزي وبين باقي القوى المحلية والجهوية. وفي هذا الإطار، فقد شكل سؤال العلاقة بين الزوايا والمخزن-وبالنسبة إلى كثير من الباحثين- منطلقا لصياغة الفروض حول طبيعة الدولة وعلاقتها بالمجتمع، وذلك على خلفية تناولهم لإشكالية العلاقة بين القبيلة والدولة بالمغرب الماقبل كولنيالي. ولعل هذا مايؤكده ذلك الكم الهام من الأبحاث والدراسات المنوغرافية والتركيبية، التي تم إنجازها حول أهم الزوايا بالمغرب- سواء من قبل باحثين مغاربة أو جانب-. وفي هذا الإطار اختلفت المقاربات وتعددت، باختلاف وتعدد التخصصات المعرفية : (تاريخ، أنثروبولوجيا، سوسيولوجيا) وباختلاف الرؤى وتعارض الإيديولوجيات أيضا، وهنا بالذات يأتي تمييزنا بين (إيديولوجيتين)  أو بالأحرى (أطروحتين) : “الأطروحة الكلونيالية”، و”الأطروحة الوطنية” التي جاءت كنقد لها. صحيح أن الإشكالية التي تؤطر دراستنا هذه حول الزاوية الخمليشية تحكمها نفس الخلفية : (خلفية السؤال) حول طبيعة العلاقة بين “المحلي والمركزي”، أو لنقل بين (القبيلة) (الدولة) بالمغرب الماقبل كولونيالي. فما هو الوضع الفعلي لهذه الزاوية إذن، في إطار نفس العلاقة؟ هل كانت حقا تمثل سلطة سياسية مضادة لسلطة المخزن، ورافضة أن يشاركها مجال نفوذها السياسي على (قبائل الريف) : مما قد يؤكد (أطروحة الصراع بين القبيلة والدولة)، كما تدافع عنها الأطروحة الكولونيالية؟ (هونري طيراس، ر. مونطاني، مولييراس، م. بيلير، جورج دراك وآخرين). أم  بالعكس ليست الزاوية سوى مجرد أداة سياسية من صنع المخزن، أو على أقل تقدير، فهي موجهة من قبله لخدمة سياسته على مستوى القبيلة، كما تدافع عن ذلك الأطروحة الوطنية في شخص (عبد الله العروي، علي المحمدي، عبد اللطيف أكنوش…)؟ أم أن واقع العلاقة بين الزوايا والمخزن يظل أعقد مما تصوره هؤلاء، وأبعد من أن يختزل في إطار إحدى المقولتين (صراع) أو (إخضاع)؟

في الواقع، هذا هو تصورنا للمسألة، فوضع الزوايا في إطار هذه العلاقة، يظل وضعا معقدا؛ وهو وضع ظل يتحدد أساسا بطبيعة علاقتها بكتلتها القبلية أولا، وبمجموعة من العوامل والمحددات التاريخية والسوسيولوجية. وعلى ضوء الفرضية العامة التي توجه هذا البحث، فإننا ننطلق من أن علاقة الزوايا بالمخزن هي علاقة ظلت متغيرة باستمرار، ومحكومة بمجموعة من التناقضات؛ بحيث لا يمكن استيعابها وتأطيرها إلا وفق تصور جدلي يفترض الصراع كما يفترض الخضوع والتعاون. وهي في ذلك تشكل جزءا لا يتجزأ من جدلية العلاقة بين القبيلة والدولة، في مغرب ما قبل مرحلة الاستعمار؛ مع ما يميز هذه العلاقة في سيرورتها التاريخية من لبس وتناقضات.

وإذا حاولنا تصور أنماط هذه العلاقة هندسيا على ضوء : “فرضية المجال وهندسة السلطة” يمكننا تسجيل ما يلي :

– بخصوص الطرح الكولونيالي، يتم تقسيم المجال السياسي المغربي هندسيا عبر خطين منفصلين : (خط القبيلة) وتسوده سلطة الزاوية، و(خط الدولة) وتسوده سلطة المخزن، ويصر الكولونياليون على أن هناك حدودا قارة وثابتة تفصل بين الخطين، مما يكرس وضع “الانفصال”  و”القطيعة” بين مجالي القبيلة والدولة.

– أما بخصوص الطرح الوطني، فنجده يكرس هندسة مجالية نقيضة، تتأسس  على مفهوم “الاتصال” بدل “الانفصال”. وهو بذلك يتصور المجال السياسي المغربي كخط متصل، يمتد من الدولة إلى القبيلة- مع ما يعنيه ذلك من اندماج وانسجام تامين بين مكونات هذا المجال- وبخصوص سلطة الزوايا هنا، فهي لا تعدو أن تكون سوى مجرد امتداد أو تمثيل لسلطة المخزن على مستوى محلي لا غير.

– إننا لا نتفق بالطبع مع أي من التصورين، على اعتبار أن الزاوية لا تمثل خط القبيلة ضد خط الدولة، مما يفيد واقع (الانفصال) أو (القطيعة) بين المجالين. وبالمثل، فهي لا تمثل خط المخزن من داخل القبيلة، مما قد يفيد وضع (الاتصال). عكس  ذلك تماما فإننا نفترض بأن الزاوية تجسد وضع المحور(Axe) الذي يتقاطع عنده الخطان، مع ما يعنيه ذلك طبعا من استقلالية نسبية لهذا المحور عن الخطوط التي تتقاطع عنده. ولعل هذا ما يفترضه المفهوم (الرياضي- الهندسي) أيضا للزاوية،  باعتبارها نتاج تقاطع خطين أو أكثر، فعلى الأقل لا يمكن تصور زاوية ضمن خط (منفصل) أو (متقطع)، كما  لا يمكن تصورها أيضا ضمن خط (متصل). وهنا بالذات تتأكد القيمة الإجرائية لمفاهيم : (التواصل) بدل (الاتصال)، (التمفصل) بدل (الانفصال) و(التقاطع) بدل (القطيعة)، وعلى ضوء هذه المفاهيم إذن، وما تكثفه من دلالات ومضامين سوسيولوجية، يأتي تصورنا لعلاقة الزوايا بالمخزن. بحيث شكلت الزوايا في هذا الإطار، ومن موقع استقلاليتها النسبية طبعا-(وهذا ما تؤكده تجربة الزاوية الخمليشية)- عنصرا أساسيا من عناصر التوازن السياسي، وأداة لعبت دور المحور في إحقاق ذلك التواصل المبحوث عنه بين مجالي (القبيلة) و(الدولة) بالمغرب الماقبل كولنيالي. وذلك في إطار جدلية معقدة، هي،  في آخر المطاف، جزء لا يتجزأ من جدلية الدولة والمجتمع.

فما هي أهم النتائج والخلاصات الأساسية التي انتهى إليها هذا البحث؟

2. أهم نتائج البحث.

كما حللنا ذلك جيدا – (في إطار مقاربة سوسيو-تاريخية لعلاقة السلطة بالمجتمع في مغرب ما قبل المرحلة الكولونيالية)- فقد شكلت القبيلة بالمغرب، ومنذ القرن 16م، مجال نفوذ مشترك بين قوى سياسية ثلاث:

– فمن جهة هناك سلطة الزاوية كسلطة محلية، ويمثلها (الشريف/ شيخ الزاوية).

– ومن جهة ثانية هناك سلطة العامل أو (القائد المخزني) كممثل للسلطة المركزية على مستوى محلي.

– هذا دون أن ننسى-بالطبع- سلطة المجالس القبلية –”الجماعات”، ممثلة في شخص الـ (أمغار) أو شيخ القبيلة.

وعلى هذا الأساس، كان لابد من التعريف أولا بمجتمع القبيلة  والقبيلة الريفية تحديدا، وبالتالي تقديم نموذج للبناء الاجتماعي والسياسي لهذه القبيلة، وكيف كانت هذه الأخيرة تدبر شأنها السياسي من داخل، وفي إطار، تجربة “المجالس القبيلية”. بحيث ما كان يعنينا هو الوقوف على كيفية اشتغال السلطة من داخل هذه المجالس؛ وبالتالي رصد ميكانيزماتها وقنوات تسريبها. وهنا بالذات كان ينبغي الوقوف عند نموذج الـ (أمغار) أو شيخ القبيلة، باعتباره يجسد السلطة العليا من  داخل هذه المجالس.

وفي هذا الإطار، كان سؤالنا يتركز بالأساس حول مدى فعالية سلطة الـ (أمغار) هذه، مما سيقودنا -(وعلى ضوء  تجربة المجالس القبلية “الجماعات” بمجتمع الريف الأوسط)- إلى التأكد من حدود هذه السلطة وأيضا عدم قدرتها على تأطير المجتمع القبلي خارجا عن إطار الدولة. فسلطة المجالس القبلية، وعلى أهميتها تظل عاجزة عن ضمان الاستقرار والأمن  اللازمين؛ بل غالبا ما كانت هي ذاتها تقف وراء العديد من النزاعات القبلية والحروب الأهلية التي طبعت مرحل هامة من مراحل التاريخ الاجتماعي والسياسي بالريف. وقد أعطينا المثال هنا بظاهرة “اللف” كشكل من أشكال التحالفات الحربية، ويكفي التذكير هنا بأن عجز تلك المجالس عن حل نزاع ما على مستويات أدنى : (الفرقة، الدوار، أو القسمة القبلية “الربع” أو “الخمس”) كان يدفع منطقيا إلى تعميم حالة الحرب؛ بحيث يصبح الخيار الوحيد والمتاح  وفق ذات المنطق القبلي– هو ما تسمح به آليات “اللف” و”اللف المضاد”. وهكذا تتوسع رقعة الحرب، لتشمل القبيلة برمتها أو مجموعة من القبائل.

لكن، وإذا كان هذا هو وضع وحقيقة السلطة كما تفرزها وتمارسها المجالس القبلية، في إطار القانون العرفي (أزرف)، فهل هذا يعني أن البديل هو ما تمثله سلطة المخزن؟ هنا بالذات كان علينا مساءلة ذلك الحضور المخزني-(والذي لا ننفيه بالطبع)- من داخل مجتمع الريف والريف الأوسط تحديدا، كحضور ممثل في شخص (القائد، العامل، ناظر الأحباس والجابي). فإلى أي حد وكيف كان هذا الحضور فاعلا؟

لقد قادنا البحث حول ذلك أيضا، إلى تأكيد حقيقة العجز البنيوي والتاريخي للمخزن عن تأطير المجتمع بمفرده، ودون إشراك لباقي القوى المحلية الأخرى. بحيث ظل حضوره في شخص القائد والعامل (القصبة)، حضورا اسميا أكثر منه تأكيدا لوجود سلطة مركزية فعلية . وقد فسرنا كيف ساهم بدوره-وبشكل كبير- في تدعيم وضع “السيبا” أو ما يصطلح عليه محليا بـ “الريفوبليك”، أكثر من مواجهته لذلك الوضع، وأعطينا المثال على ذلك بالسياسات الضريبية المجحفة، التي ما فتئ المخزن ينهجها -على الأقل- منذ هزيمة (حرب تطوان 1860م)، وما كانت تقتضيه “معاهدة الصلح” من التزامات مالية ثقيلة كان على الدولة الوفاء بها لصالح الإسبان. لا يخفى إذن، ما شكلته تلك السياسة الضريبية-في هذا الإطار- من استنزاف حقيقي للرعايا؛ ناهيك عن واجبات أخرى أثقلت بدورها كاهل القبائل، بما في ذلك واجب (الجندية، السخرة، والمؤونة) وغيرها من لوازم الخدمة المخزنية التي كانت تقتضيها مسألة تجهيز “الحركات المخزنية” الموجهة لقمع الانتفاضات والتمردات القبلية والحركات الانفصالية أيضا : (حركة بوحمارة) و(الريسوني). وتتأكد مسؤولية المخزن كذلك عن هذا الوضع المتفجر- (والذي تم تأطيره ضمن مقولة “السيبا” الأكثر رواجا من  داخل الأدبيات الكولونيالية والانقسامية، ومن داخل الخطابات المخزنية حول القبائل)- من خلال طبيعته البيروقراطية، والتي يعكسها بشكل جيد عجزه عن الاندماج من داخل هذه المجتمعات القبلية، ونهجه إزاءها سياسة قائمة-في معظمها- على كثير من القوة والعنف (الحركة والمحلة) وقليل من السياسة والديبلوماسية.

لقد أثبت المخزن عجزه إذن، واتضح لنا بأن سلطة العامل و”القائد المخزني” ليست بأحسن حال  سلطة الـ (أمغار)، وما بالك أن تمثل البديل عنها. وهنا بالضبط يأتي دور الزاوية (كسلطة سياسية محلية)، أكدت قوتها ونفوذها من داخل  مجتمع القبيلة الذي شكل ومنذ القرن 16م، كما أشرنا، مجال نفوذ مشترك بين هذه القوى السياسية الثلاثة : المخزن ممثلا في (القائد المخزني)، ال (أمغار) شيخ القبيلة و(الشريف) شيخ الزاوية.

إن سلطة الزاوية إذن -وعلى مستوى محلي- تبدأ عند حدود سلطة الـ (أمغار) وعجز سلطة (القائد المخزني)، وهي بذلك الأقوى والأكثر تجذرا واندماجا. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فهي سلطة تختلف عن كليهما من حيث مرجعياتها وأسس مشروعيتها  وطرق وأشكال تسريبها وممارستها. فسلطة الشريف (شيخ الزاوية)، كما حللنا ذلك جيدا، لا يستمدها من الأعراف القبلية أو القانون العرفي (أزرف)-كما هو الشأن بالنسبة لشيخ القبيلة (أمغار)- كما يدعي الطرح الكولونيالي. وبالمقابل أيضا، فإن أساس سلطة الشريف ليس هو المخزن أو (الظهير السلطاني)- كما يوحي بذلك الطرح الوطني، إذ لم يكن شيخ الزاوية موظفا مخزنيا (قائدا أو عاملا)، وإلا لاستغنى به  المخزن عن كليهما. فصحيح أن شيخ الزاوية كان يحصل هو الآخر على ظهائر سلطانية (ظهائر التوقير والاحترام)، لكن ذلك لا ينبغي أن يذهب بنا الى اعتبار الظهير هو مصدر سلطة هذا الأخير وأساس شرعيتها ومشروعيتها. لقد ميزنا بشكل دقيق إذن، بين سلطة الـ(أمغار) وسلطة (القائد المخزني) وسلطة (الشريف)، وانتهينا إلى أن سلطة هذا الأخير لا يمكن فهمها إلا بالرجوع الى الحقل الصوفي ذاته، كحقل ممارسة تاريخية؛ وما يكثفه هذا الأخير من مرجعيات ومن أنماط سوسيو-تاريخية يتقاطع من داخلها الديني بالميثولوجي والقداسي بالسياسي. وفي هذا الإطار، ميزنا بين المرجعيات الثلاث التي شكلت بالنسبة لتنظيم الزاوية ذلك الأساس الإيديولوجي المتين، في بناء التنظيم وفي سيرورة تبلور وتطور السلطة من داخله؛ ونعني هنا بالطبع : المرجعية الصلحاوية- Maraboutisme، المرجعية الطرقية- Confrérisme والمرجعية الشرفاوية- Chérifisme.

في صلب هذه المرجعيات الثلاث، وارتباطا بإشكالية السلطة من داخل تنظيم الزاوية، حاولنا إذن، أن نقف على أصل الظاهرة وجوهرها (السلطة). وهنا بالذات تأتي قيمة (البركة)، التي اعتبرناها بمثابة “البنية التحتية لهذه السلطة- (كسلطة روحية/ رمزية) تكتسي مع الزمن طابعا سياسيا بحتا-. إن التحول من الروحي إلى الزمني ومن القداسة إلى السياسة، بخصوص نشاط واشتغال سلطة الشيخ/ الشريف، هو تحول يبقى محكوما بمجموعة من العوامل والمحددات. ولعل هذا ما حاولنا أن نقرأه على ضوء العلاقة التاريخية بين الزاوية وكتلتها القبلية، كعلاقة هبة متبادلة –( كما صاغها الأنثربولوجي الفرنسي مارسيل موس)- وقد قادنا التحليل في هذا الاتجاه إلى أن علاقة التبادل هذه، تكرس لمفهوم خاص من السلطة وتدعمها أكثر فأكثر، بحيث يصبح الإقرار ببركة الشيخ/ الشريف هو اعتراف مسبق بسلطته أو بالأحرى (هيبته)، وهذا ما أطرناه ضمن هذا العنوان العريض : (منطق الهبة وأسس الهيبة). لقد اعتبرنا بأن نموذج العلاقة القائمة بين الزاوية والقبيلة، كعلاقة “هبة”، هو نموذج  يتأسس في جوهره على مفهوم خاص للخدمة، أقرب ما يكون إلى مفهوم (الخدمة المطلقة)  التي يكرسها نموذج (الشيخ والمريد) من داخل أدبيات الممارسة الصوفية. فبمثل ما يخدم المريد شيخه ويسعى إلى إرضائه، من خلال سلوكات تكرس نحوه قمة الخضوع والطاعة والإذعان، نجد القبيلة تخدم زاويتها أيضا مكرسة إزاءها نفس السلوكات. وفي هذا الإطار، اعتبرنا بأن النموذج الثاني (زاوية/ قبيلة) هو بمثابة إعادة إنتاج موسعة لنموذج (شيخ/ مريد) على مستوى المجتمع؛ وهنا تأتي قيمة (البركة) التي توجد في أساس علاقة الخدمة تلك، بل هي الدينامو المحرك لها. وقد فسرنا كيف تترجم هذه البركة سوسيولوجيا- (في إطار علاقة الزاوية بكتلتها القبلية)- إلى أشكال من التدخلات تتراوح بين المعقول والامعقول، الأفقي والعمودي، البسيط والمعقد… وهو ما تلخصه وظائف الزاوية المختلفة، والتي تأتي هنا كتفعيل لهذه البركة التي يمنحها الشريف لمجتمعه. فهو يمنح : (العلم، الأمن، الرخاء، الاستقرار، الحماية، وسبل الخلاص المادي والروحي) وبالمقابل- واعترافا ببركته هذه– تتحدد كافة أشكال الخدمة التي تقدمها القبيلة لزاويتها. فهي الأخرى تمنح : (الأرض، المال وقوة العمل)، بل أكثر من ذلك تمنح عقلها لزاويتها، وهنا مكمن السيطرة من حيث إن أساس أية سلطة هو السيطرة على العقول.

إن أساس سلطة الزاوية إذن، تستمده من وضعها الروحي المتميز (البركة) ومن عمق وقوة ارتباطها وتلاحمها الجدلي بكتلتها القبلية. وهو ارتباط يبقى مرهونا بمدى استجابة الزاوية لمتطلبات وإكراهات الوسط القبلي الذي تنشط فيه وتؤطره. إذن، ليس المخزن هو من يقف وراء هذه السلطة ويدعمها (عن طريق الظهير)، وليست الأعراف القبلية (القانون العرفي) كذلك، بل إن سلطة الزاوية (كسلطة سياسية محلية) تحتفظ باستقلاليتها النسبية عن كليهما؛ رغم أنها تلعب هنا دور المحور الذي يتقاطع عنده خط القبيلة بخط الدولة. وهذا لا ينفي بطبيعة الحال كون الزاوية تستغل وضعها هذا وعلاقاتها الملتبسة، كي تتوسع على حساب كل منهما (القبيلة والمخزن). وارتباطا دائما بما هو سياسي من داخل  نشاط وتحركات الزاوية، فقد خلصنا إلى الاستنتاج التالي : وهو أنه لا يمكن فهم الدور السياسي لأية زاوية، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار واقع الاستقلالية النسبية  التي تميزها كتنظيم. وهنا بالذات يتحدد الدور السياسي الخطير الذي اضطلعت به الزاوية الخمليشية بالريف الأوسط، فقد شكلت  في هذا الإطار عنصرا أساسيا من عناصر التوازن والاستقرار السياسيين، من داخل مجتمع قبلي “بربري” ظلت علاقته بالسلطة المركزية علاقة غير مستقرة دائما. وقد حللنا  بشكل دقيق، كيف –نجحت وإلى حد بعيد- في ضبط التوازنات العامة من داخل هذا المجتمع، وفي إطار علاقته بالسلطة المركزية، وذلك حتى في أشد فترات ضعف هذه السلطة بل وغيابها التام. خاصة إثر وفاة السلطان الحسن الأول، وما أعقب ذلك من أحداث تراجيدية وتداعيات تم تأطيرها ضمن مقولة (الريفوبليك) : -كتعبير محلي عن حالة الفوضى السياسية الناجمة عن تعطل الأحكام العرفية وغياب سلطة المخزن. لقد لعبت الزاوية الخمليشية إذن، كغيرها من الزوايا، دورها التاريخي كمحور لإحقاق ذلك التواصل المبحوث عنه، بين مجالي القبيلة والدولة. ولعل هذا ما حاولنا- (وعلى ضوء التجربة التاريخية لهذه الزاوية)- تحليله وتأطيره، ضمن رؤية وتصور جدليين : (جدلية المحلي والمركزي). بحيث قادنا التحليل  في هذا الاتجاه إلى  أن استمرار هذه الزاوية وقوتها، ظلا رهينين بمدى قدرتها على المناورة واحترام التوازنات الضرورية بين قطبي هذه الجدلية : (قطب المحلي          و(قطب المركزي)؛ لأن التضحية بأحدهما لصالح الآخر تعني القضاء على  بنية التنظيم وضربه في أساسه.

لعل هذا ما سيحدث فعلا مع هذه الزاوية، وإن بأشكال “لينة” بطيئة وغير مكشوفة دائما؛ لكنها ستثبت فعاليتها على المدى البعيد. وفي هذا الإطار تقدم الزاوية الخمليشية (نموذجا) للزاوية التي تحولت تدريجيا إلى جهاز (شبه ممخزن)، بحيث يمكننا التأريخ هنا لبدايات تفكك الزاوية وبالتالي انهيارها كتنظيم، من خلال مسلسل “المخزنة” الطويل المدى الذي تعرضت  له هذه الزاوية، في إطار علاقتها بالمخزن. لقد قمنا في هذا الإطار، بتحليل دقيق للمتن الوثائقي (حوالي 200 وثيقة غير منشورة)، خاصة الأرشيف الخاص بالمراسلات المتبادلة بين (الزاوية) و(المخزن)، والمتعلقة أساسا بمسألة الضرائب والجبايات : (تفويض سلطة الجباية لشيخ الزاوية)، والامتيازات المخزنية الأخرى التي كانت تضمنها(ظهائر التوقير والاحترام) الموجهة إليه. ولعل هذا ما قادنا بالفعل إلى رسم صورة واضحة حول سياسة المخزن تجاه الزاوية، واستراتيجياته التي كانت تهدف في العمق إلى عزلها- تدريجيا- عن كتلتها القبلية، بضرب الأسس الروحية والرمزية  لسلطتها وتجذرها من داخل مجالها القبلي، لصالح الأساس المادي (الاقتصادي).

هذا الوضع إذن، سيكرس تبعية “الزاوية” أكثر فأكثر للمخزن، مما سيمكن هذا الأخير من توظيف سلطاتها في اتجاه ولصالح سياسته العامة تجاه القبائل : بحيث أصبح “الشريف” هنا يتصرف بمنطق “القائد المخزني” و “الجابي” أكثر منه بمنطق “شيخ الزاوية” كما حددنا معالمه من قبل.

على ضوء هذه المعيطات إذن، ينبغي أن نقرأ مسار تفكك وانحلال “الزاوية الخمليشية” كتنظيم قائم بذاته.

أخيرا، بقي أن نثير الانتباه إلى إحدى  المفارقات، التي تشكل خصوصية بارزة بالنسبة إلى هذه الزاوية، خاصة إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار تجربتها الغنية وتاريخها الاجتماعي والسياسي الطويل. ولعل هذا ما نلخصه في السؤال التالي : لماذا ظلت هذه الزاوية حبيسة حدودها المحلية (قبائل الريف الأوسط وصنهاجة السراير)، مع العلم أن نشاطها كان يتجاوز بكثير هذه الحدود الضيقة؟

في الواقع، هذا وضع يوحي بكثير من التناقض والاستغراب؛ وقد بينا في هذا الإطار كيف كانت الزاوية- في تحركاتها ونشاطاتها السياسية والعسكرية (الجهادية)- تتجاوز بالفعل هذه الحدود المحلية إلى ما هو وطني. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بالدور السياسي والجهادي للزاوية، والذي تبلور منذ “التجربة المرابطية” للخمالشة (ق16م)، وتعزز أكثر مع تأسيس الزاوية. فسواء في مشاركة هذه الأخيرة  في حربي (إيسلي 1844) و(تطوان 1860)، أو في دورها الفعال في دعم السلطة المركزية ومساندتها في مواجهة أخطر “حركة انفصالية” شهدها المغرب قبيل فترة ما يعرف بـ (الحماية)- ونعني هنا حركة الجيلالي الزرهوني الملقب بـ”بوحمارة” (1902- 1909)-. وفي نفس السياق، وباسم نفس الشعور (الديني-الوطني)، سوف تقدم هذه الزاوية مساندتها ودعمها اللامشروطين لكل من حركة (الشريف سيدي محمد أمزيان) وحركة (الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي) التحريريتين؛ وهذا ما تؤكده العديد من وثائق الزاوية المعتمدة في البحث. فلماذا هذا الانكماش إذن، وذلك التقوقع في “المحلية” كما تجسدا في تجربة الزاوية الخمليشية من داخل الريف الأوسط؟

في تقديرنا يمكن تفسير هذا الوضع بمجموعة من الأسباب والعوامل، بعضها يعود إلى تاريخ الزاوية ذاتها ووضعها الداخلي الخاص، والبعض الآخر يمكن أن نعزوه إلى طبيعة علاقتها بكل من المخزن وباقي الزوايا الأخرى، التي كانت تتقاسم معها نفس المجال  أو بعضه. وفيما يلي نكتفي بتسجيل أبرز هذه العوامل وأكثرها دلالة بخصوص هذا الوضع.

1-لقد ارتبط تاريخ الزاوية الخمليشية -وبشكل وثيق- بتاريخ (كونفدرالية صنهاجة السراير)، فشيخها كان بمثابة القائد السياسي والعسكري لهذه “الاتحادية القبلية” -كما تقدم- وهذا ما جعل  الزاوية، في اعتقادنا، تصر على احترام حدودها القبلية حفاظا منها على ذلك الأساس السوسيو-مجالي الضامن لاستمراريتها كسلطة قوية ومندمجة.

2-واقع التبعية الروحية من قبل الزاوية الخمليشية للطريقة الناصرية والتقيد بمسألة توزيع المجال ما بين الزوايا التابعة-روحيا لهذه الطريقة الصوفية. وفي هذا الإطار- وكما تفيدنا وثائق الزاوية- فقد كان بإمكان “الخمالشة” أن يؤسسوا زوايا لهم بجهات أخرى غير الريف الأوسط، إلا أن وجود زوايا ناصرية هناك جعل شيخ الطريقة يكتفي بذلك، حتى لا تقع صراعات بين زوايا تنتمي روحيا إلى نفس الطريقة الصوفية.

3-الصراع ضد زوايا أخرى، خاصة “الوزانية” التي كانت تشاطرها نفس المجال القبلي الريفي، و”الدرقاوية” التي كان لها نفوذ واسع على قبائل الجبل واغمارة، إلى جانب زوايا أخرى ك”الريسونية” و”البقالية”.

4-لا نستبعد أيضا دور المخزن في هذا الإطار، بما كان ينهجه من سياسات براغماتية تجاه الزوايا-(بما تعنيه من مؤامرات)- ترمي على المدى البعيد إلى إضعاف الزاوية أو إلى تدجينها و”مخزنتها”. وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم كيف كان المخزن يسعى إذكاء الصراعات بين الزوايا المتواجدة بنفس المجال القبلي، بل أكثر من ذلك إثارة عوامل الصراع والتمزق من داخل نفس الزاوية : (مناصرة فرع ضد فروع أخرى، أو دعم شيخ ضد شيخ آخر من نفس الفرع…).

5-لا يخفى بالطبع ما عانت منه الزاوية الخمليشية من صراعات داخلية، كانت تدفع نحو واقع التجزئة والانقشاشات التي تؤثر لا محالة على قوتها وحجم نفوذها السياسي، فقد بدأ الصراع يستحكم من داخل “الأسرة الخمليشية” على الأقل منذ بداية القرن 19م، ليتعزز أكثر مع نهاية القرن 19م، وبداية القرن 20م، بظهور فروع جديدة تتنافس على زعامة الزاوية.

*هذا المقال في الأصل، هو تلخيص مركز لأطروحة دكتوراه في علم الاجتماع ناقشها الباحث بكلية آداب فاس:2001.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.