الإثنوغرافيا والخطاب الرحلي – أوجه التمايز وأبعاد الحضور

voyage_01

بقلم: سماح بن خروف – باحثة جزائرية

  • بين الإثنوغرافيا وأدب الرّحلة – مفارقة إصطلاحية:

قبل الحديث عن حضور البعد العلمي في أدب الرحلة الجزائري، أي مدى تمظهر السّمات الإثنوغرافية فيه، حبّذا التعريف بهذا العلم، وإبراز مرتكزاته التي ساعدت على تعالقه والخطاب الرّحلي؛ لأنّ كل ما يصادف الرّحالة الجزائري أثناء القيام بأسفاره المتنوعة من معالم تاريخية وثقافات متمايزة، وتقاليد يسعى الإثنوغرافي بدوره إلى معالجتها والتحقيق فيها وفي عراقتها، وعرض المعطيات العمرانية، فيتقاطعان في وصف الطبيعة والمياه والآبار مثلاً أو الآثار التي تحيل هي الأخرى على حضارة البلد الموصوف لنستشف البعد الحضاري في كليهما.

والإثنوغرافيا علم يهتم بوصف الموجودات «والمحسوس لواقع الحياة اليومية لمجتمع ما خلال فترة زمنية معينة، متضمناً ذلك مجموع القيم والتقاليد والعادات والآداب والفنون، وكل ما يندرج تحت ذلك الكل المركّب الذي اصطلح على الإشارة إليه بكلمة ثقافة»[1]. فاكتشاف عالم الإنسان والبعض من الأماكن المغمورة كالمحيط الأطلنطي الذي لم يكن معروفاً مثلاً، والقارة الأمريكية نفسها كانت غائبة عن المعجم الجغرافي، لكن وبفضل رحلات الإثنوغرافيين تمّ إظهارها إلى النور والتعريف بها وبسماتها التي سجلتها في تاريخ الشعوب وحضاراتهم.

والأديب الرّحالة إثنوغرافي في ظاهره فهو يتفقد البلدان والأماكن، ويصف بتصوير معمّق المشاهد المؤثرة فيه، وعادات الدّول التي خطّت قدماه أرضها، ولكن بأسلوب تعبيري يرتكز الفنية متكأ في نقل المحسوس والموجود، لكنه يفتقر إلى التسلح العلّمي والصرامة في الملاحظة أو الغاية في التأسيس لنظريات معرفية حول الجنس البشري وجلّ طبائعه، فالإثنوغرافي يعتمد مبادئ الجيولوجيا والجينالوجيا والأنثروبولوجيا…، كلّها علوم مسخّرة له لصبغ دراسته الموضوعية صبغة علمية ساعدت الوسائل التكنولوجية على الغوص فيها وبإتقان، في حين لا يجيد التلاعب بالألفاظ والأساليب أو الانزياح بالتعابير حتى يبرع ويبدع في التصوير مثلما يفعل الرّحالة.

  • نماذج إثنوغرافية في الرّحلة الجزائرية الحديثة

كان للملامح الإثنوغرافية مكان في «عائد من الصّحراء الغربية » لحسان الجيلاني، فقد قدّم لنا جانباً اجتماعياً محيلاً على طبائعهم، ف «الشعب الصحراوي لا يعرف معنى عدم الاختلاط، فالمرأة إلى جانب الرجل، والشاب إلى جانب الشابة، والكلّ يعيش في أمن وأمان واطمئنان، ويسهر الجميع إلى بعد منتصف الليل دون أن يعتدي أحد على واحدة، ودون أن ترى مظهراً من مظاهر العنف…»[2] فهو يصرّح في سهرة ليلية قضاها في إحدى الخيمات بأنّ فكرة الاختلاط أمر عادي، حتى وإن تجاوزت السهرة منتصف الليل فلا وقت ولا قانون يفرض سلوكيات الحياة على الأفراد، فعرض لنا ثقافة مضادة ونقيضة لثقافة الجزائر في نظره، كأسلوب عام محدّد لمظهر اجتماعي (أخلاق) معين وسائد.

وفي منحى آخر ينسج «الشيخ باعزيز » على منوال ابن جبير في مدحه لأهل مكّة ووصفه لخيراتها ومعالمها، وبدوره يتغنّى بأخلاق أهلها وبعطر جوها ونسيمها، فأردف قائلاً: «ضيقها كعاصمة لم يمنع أهلها من اتساع أخلاقهم وكثرة حفاوتهم بضيوفهم»، ويضيف مشيداً: «وما أحلى ليالي المدينة وأصفى جوّها وأعذب هواءها»[3]، فقد تطرّق كلاهما إلى الجوانب المادية والمعنوية لشعوب البلدان المستضيفة لهما، لأنّ الرّحالة الجزائري يسافر ليتفاعل مع معطيات المجتمع الآخر، فيعجب ويتفاجأ تارة أو ينبهر ويتحسّر تارة أخرى، بخاصة إذا تعلق الأمر بالآداب التي من شأنها أن تسير على وتيرة واحدة بين الشعوب.

أمّا عن العادات والتقاليد فيتحدث الجيلاني عن مراسيم الزواج التقليدي لدى الصحراويين شاهده من خلال استعراض أسسته فرق شابة مفعمة بالحيوية والنشاط، فالزواج لدى هؤلاء بسيط أصيل في ظاهره لا يغلّب الماديات، ولا يحتاج إلى بروتوكولات مكلّفة أيضاً، بل يعتمد الاستعراض الذي يقدّم الطابع الفولكلوري لهذا الشعب، وفي هذا المقطع يسرد الخطوات التي يسير عليها الصحراويون في احتفالهم بزواج العروسين:

«وتمّ عرض زواج تقليدي تحمل العروس بالهودج ويتم أخذها إلى بيت العريس عن طريق الزغاريد التي تعبّق الجوّ بروح التراث والمسرّة والمحبّة، وقد مثّلت هذا الدّور شابات سمراوات من أهل الصحراء»[4].

فهو يبين جانباً مادياً من التراث الشعبي لهذه البلاد، ويتيح فرصة المقارنة لدى القارئ بحسب نظامه المعرفي والثقافي الخاص ببلاده وبغيرها من الأمم.

وبصورة مغايرة نوعاً ما يستذكر «الشيخ باعزيز » تقاليد بلاده في ديار الغربة حنيناً وشوقاً وإبرازاً للموقف الإصلاحي، لأنّه يحث على تصحيح فكرة خاطئة سادت في مجتمعه وتكمن في المغالاة المادية التي ينبغي أن تصرف حتى يلقّب الحاج فعلاً بالحاج، ويا لها من كنية بعيدة عن الأصل الجوهر السامي فيها، فبحسبه «جرت العادة وحكّمت التقاليد أن يستقبل الحاج بحفاوة زائدة لا من ذويه وأقاربه فحسب بل من عارفيه وسكان حيّه وقريته، وفي بعض الجهات تتألف وفود من أولئك فتخفّ بالطبول والزّرنة لاستقباله…، أمّا أنا فلم أحفل بشيء من هذا كلّه، فلا طبول ولا زرنة ولا زغاريد ولا موائد عامة من نوع ما ذكر، ومع ذلك أرغمتني هذه التقاليد على حمل كمية ممّا يوزع كهدايا بهذه المناسبة على الزائرين»[5]. فعدم سيره على منوال سابقيه بحسب ما أملته العادات والتقاليد حرمت الكاتب من لقب الحاج رغم المشقة المادية التي تحمّل أوزارها في البقاع المقدسّة.

وقد قدّم الرّحالة الجزائري الحديث صورة عن الإثنوغرافي عندما عالج أهم مادة لهذا العلم وبصفة مباشرة، فقد خصّص الجيلاني عنواناً لمصطلح الثقافة في مدوّنته وعنونه بأصالة الثقافة، حيث قام بتقييم وتوصيف ثقافة الشعب الصحراوي قائلاً: «الحقيقة التي يمكن أن تسجّل هي أنّ للشعب الصحراوي ثقافة أصيلة ظلت متماسكة وقوية في وجه كلّ التيارات الاستعمارية، فقد ظلت صامدة متحدية كلّ أوجه الاستلاب والتدمير»[6]. فلولا الاحتلال الإسباني لما تعثرت الثقافة الصحراوية ولما سارت هذا السير البطيء، إلا أنّ المجابهة وروح المقاومة مغروسة في نفوس الشعب مهما كانت الظروف.




سماح بن خروف: باحثة جزائرية، طالبة بسلك الدكتوراه بقسم اللغة العربية وآدابها، جامعة باتنة، الجزائر. أستاذة بقسم اللغة العربية وآدابها، جامعة محمد البشير الإبراهيمي. من إصداراتها: “”تجليات الاغتراب وأنماطه في الرّواية العربية” (2016).




ملاحظة: مقتطف من بحث أوسع بعنوان: تجليات الإغتراب وإثنوغرافيا الواقع في الخطاب الرّحلي الجزائري الحديث – نشر على موقع: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث




الهوامش:

[1] حسين فهيم، أدب الرحلات، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 138، (يونيو/1989)، ص 14.

[2] حسان الجيلاني، عائد من الصحراء الغربية، الجزائر،  وزارة الثقافة، 2007، ص 28.

[3] عمر بن قينة، رحلات ورحّالون- في النثر العربي الجزائري الحديث، الجزائر، دار الأمّة للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2، 2009، ص 84.

[4] م.س. حسان الجيلاني، ص 35.

[5] م.س. عمر بن قينة، ص 88.

[6] م.س. حسان الجيلاني، ص 4.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.