الأحلام – مقاربة إثنوغرافية 1

lucid-dreaming-1-300x240

تمهيد :

    لم أحاول أن أتتبع كل الثقافات، فلا حمْل لي بهذا، ولا هو هدف هذا النص. وإن كان قد تم إنتقاءها، لتغطي مساحة شاسعة زمكانية، فمن منطقة حوض البحر المتوسط إلى جنوب شرق آسيا وشمال أوروبا، إضافة إلى أستراليا وأميركا. ومنذ 9000 آلاف عام، إلى قبائل الكالابالو (مثلًا) التي ما زالت تحاول الإستمرار في المحافظة على ثقافتها وخصوصيتها.

    والمسألة الأساسية هي إظهار تنوع وغنى النظرة إلى الأحلام، وعالميتها، واعتبارها طريقًا ملكيًا، إن لم يكن للعالم الآخر، فعلى الأقل، لذات الفرد.

*** *** *** *** *** *** *** *** ***

الأبوريجينز (Aborigines):

    الأبوريجينز هم أول من سكن أستراليا. عاشوا فيها منذ أكثر من خمسين ألف عام [أو مائة وثلاثين ألف عام – الإختلاف عائد إلى تنوع الباحثين وطرق تحقيبهم –].

    عندما بدأ الأوروبيون يستعمرون أستراليا منذ العام (1788)، كان عدد الأبوريجينز لا يقل عن (300) ألف نسمة، اليوم يقدّرون بنسبة (1%) من مجموع السكان!

    يعتمد الأبوريجينز بشكل أساسي في معيشهم على الطبيعة، ويعرفون نوعية الأطعمة التي تتواجد في كل فصل ومكان تواجدها. ويعتبرون شعبًا متدينًا، ومن أهم مظاهر هذا التدين الأحلام. فهم يعتقدون أن الخالق والكائنات الروحية موجودون منذ البدء، وقاموا بتشكيل العالم والبشر وكل شيء. وهذه الأرواح مازالت تحيا لليوم وستستمر إلى المستقبل. إن فكرة الحلم ترتبط بفكرة الخلود في فكرهم الديني.[1]

    إن الأسطورة التالية للخلق توضح كيفيته، وموقع الأحلام فيه:

    الآن منذ القدم، منذ زمن قديم بالطبع، في البداية، عندما لم يكن هناك ناس أو أشجار أو نباتات، على أي من هذه الأراضي، ’’جوتي – جوتي‘‘(Guthi-guthi)، روح كائننا السلفي، عاش فوق في السماء.

    وهكذا نزل وأراد أن يخلق الأرض المميزة للناس والحيوانات والطيور لتعيش فيها.

    وهكذا ’’جوتي- جوتي‘‘ نزل وبدأ بخلق الأرض للناس بعد أن نصّب حدود المكان وعيّن المشاهد المقدسة – أماكن ولادة جميع الأحلام – حيث ستأتي كل الأحلام منها.

   وضع ’’جوتي–جوتي‘‘ واحدة من قدميه على جبل ’’جاندربوكا‘‘(Gunderbooka) والأخرى على جبل ’’جرينفل‘‘ (Grenfell).

    ونظر في الأرض فرآها جدباء، لا يوجد أي ماء على مرمى البصر، ولا ينمو أي شيء. وهكذا ’’جوتي- جوتي‘‘ عرف أن ثعبان الماء، ويياوي (Weowie) محاصر في الجبل، جبل مينارا (Minara). وهكذا ’’جوتي- جوتي‘‘ صرخ له: ’’ويياوي، ويياوي‘‘، لكن بما أن ’’ويياوي‘‘ كان محاصرًا في نصف الجبل تمامـًا، لم يقـدر أن يسمعه.

545_3

    ’’جوتي- جوتي‘‘ رجع إلى السماء، ونادى مجددًا: ’’ويياوي‘‘، لكن مجددًا ’’ويياوي‘‘ لم يجبه. وهكذا ’’جوتي – جوتي‘‘ نزل بزمجرة كالرعد وضرب الجبل ففلقه. فخرج’’ويياوي‘‘ ثعبان الماء، وفي الأماكن التي مرّ فيها تشكلت برك وجداول ووديان في الأرض.

    وبعد أن انتهى كل ذلك بالطبع، عاد ’’ويياوي‘‘ إلى الجبل ليعيش، وهو يعيش هناك الآن، في الجبل مينارا. لكن بعد هذا، أراد أسلافنا كمية أخرى من الماء لتأتي من الشمال، عبر بلادنا. باندو القديم (Old Pundu) سمكة القُد، كان واجبه أن يسحب ويخلق النهر المعروف حاليًا بإسم ’’نهر دارلنغ‘‘ النهر العزيز (Darling River). وهكذا أتت سمكة القد وقبّرة الوحل، رفيقتها الصغيرة، وانطلقوا من الشمال، وخلقوا النهر الكبير، الذي ينحدر إلى الأسفل، الماء تنساب عبر بلادنا، نحو البحر الآن.

    وبالطبع، خلق هذا البلد أيضًا، وأول قبيلتين وضعا هنا في بلادنا، هما ’’إيغلهوك‘‘ (النسر – الصقر) (Eaglehawk) و’’كرو‘‘(الغراب) (Crow)، ومن هاتين القبيلتين تحدّر العديد من الناس القبليّين، العديد من القبائل، وهكذا شعبِي، شعب النجيامبا (Ngiyaampaa) والباركانجي (Barkandji)، هم جميعًا فروع للأسلاف ’’إيغلهوك‘‘ و’’كرو‘‘.[2]

*** *** *** *** *** *** *** *** ***

الإغريق:

    إن واقعة الحلم لم تكن ظاهرة بسيطة في نظر الإغريق، فالروايات عن الأحلام حقيقية إذ من يجسر على استثارة انتقام الآلهة عن طريق روايات مختلقة![3] إن الأحلام وفق ما يرى أوريبيد هي أولاد غايا [أي الأرض]، خلال النهار تختبئ كالأرواح ذات الأجنحة السوداء في المناطق الجوفية التي تغادرها ليلًا لتطير في الإتجاهات كافة.[4] ويرى هوميروس في الأوديسة، أن لمدينة الأحلام بابين، باب من عاج وأحلامه سراب، وباب من قرن وهي التي تتحقق للكائن الفاني الذي تتراءى له. وكان الإغريق مقتنعين أنه لا يفصل العالم الأرضي عما وراء هذا العالم إلا حاجز رقيق يمكن شقّه في كل لحظة، وكان يكفي في الليل إختيار مسكن في أي من أنصاب الطبيعة، ففي وسع كل واحدة من علاماتها أن تعمل كوسيط بين النائم من جهة، والآلهة والأبطال وقوى الجحيم والأجداد وأرواح الموتى التائهة من جهة أخرى. وكانوا يرون أن كل حلم يمكن أن يصبح في كل حين واقعًا ممتعًا أو مخيفًا، سواء اتخذ شكلًا مماثلًا أو شكلًا معدّلًا بصورة رمزية. فـ”لوكيان”، الشاعر اليوناني، يتذكر كيف ظهرت له في أحد أحلامه شخصيتا النحت والتعليم تحاول كل منهما إقناعه بمزايا أساليب حياتها الخاصة.[5] ولدى الإغريق إلاهان للنوم هما هيبنوس وثاناتوس (وهو إله الموت أيضًا) إضافة إلى إله الأحلام مورفيوس.[6]

    وقد اكتشف أبقراط، أن الأمراض يمكن أن تعلن عن نفسها في الحلم، فالإضطرابات التي لا يشعر بها الصاحي تظهر بوضوح أكبر أثناء الرقاد، وتعبّر عن نفسها بصور الحلم، لذا فقد كان يستخدم أحلام زبائنه في تشخيص أمراضهم.[7]

    أما أفلاطون، فكان يعتبر أن في داخلنا جميعًا، حتى في داخل الناس الطيبين، تكمن طبقة عنيفة متوحشة مطلقة من الخضوع لأي قانون، تحاول أن تفصح عن نفسها في الحلم.[8]

    ويبقى الأشهر في ذلك العصر في تفسير الأحلام “أرتميدور”، وقد ادعى أن الإله أبولو ظهر له في الحلم وألزمه أن يحرّر كتابه، الذي ينقسم إلى خمسة أجزاء، تتناول موضوعات متنوعة جمعت تحت عنوان “رمزية الأحلام”، وقد شرح فيه ثلاثة آلاف حلم[9].




[يتبع]




الهوامش:

[1] Robert O. Zeleny (ed), The World Book Encyclopedia, U.S.A., World Book Inc.,-, 1992, vol 1, p.p. 16,17,25,34.

[2]  Creation Story as told by Aunty Beryl Carmichael, http://web.archive.org/web/20050615115739/http://www.dreamtime.net.au/creation/text.htm

[3] هناك مشابه إسلامي لهذا الأمر، ففي الحديث: من تحلّم ما لم يحلم (أي قال إنه رأى في النوم ما لم يره) كلّف أن يعقد بين شعيرتين قال: فإن قيل كذبُ الكاذب في منامه لا يزيد على كذبه في يقظته، فلم زادت عقوبته ووعيده وتكليفه عقد الشعيرتين؟ قيل: قد صح الخبر أن الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، والنبوة لا تكون إلا وحيًا، والكاذب في رؤياه يدعي أن الله تعالى أراه ما لم يُره، وأعطاه جزءًا من النبوة ولم يعطه إياه، والكاذب على الله أعظم فِريةً ممن كذب على الخلق أو على نفسه [ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر، ط 1، 1990، مجلد 12، ص 145].

[4] هذا الطيران الليلي للأحلام مشابه لما عند الهنود الأمريكيين كما سنرى لاحقًا، وكذلك تشابه فكرته ما لدى المسلمين أيضًا، إذ ورد عن الرسول (ص) قوله: ’’الرؤيا… على رجل طائر ما  لم يتحدّث بها، فإذا تحدث بها سقطت‘‘. [سنن الترمذي – كتاب الرؤيا عن رسول الله (ص) – باب ما جاء في تعبير الرؤيا – الحديث 2278].

[5] بنيلوبي مرّي (تحرير)، العبقرية (تاريخ الفكرة)، ترجمة: محمد عبد الواحد محمد، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة/عدد 208، نيسان/1996، ص 44.

[6] ماكس شابيرو ورودا هندريكس، معجم الأساطير، ترجمة: حنا عبود، دمشق، دار علاء الدين، 1999، ص.ص 126، 170، 242. وبما أن إله الموت هو إله النوم أيضًا، فهذا يشير إلى نظرة الإغريق للنوم باعتباره كالموت، وهو يشابه النظرة الإسلامية أيضًا.

[7] م.س. م. بونغراكز وج. سالتز الأحلام عبر العصور (معجم تفسير الأحلام)، ترجمة: كميل داغر، بيروت، دار النهار للنشر، 1983، ص 63.

[8] محمد الجوهري، علم الفولكلور (الجزء الثاني –دراسة المعتقدات الشعبية–)، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990، ص 293. وهي ذات فكرة فرويد حول اللاوعي كمصدر للأحلام.

[9] م.س.، م. بونغراكز وج. سالتز، ص.ص 64،87.




ملاحظة: لا بد من التوضيح أن جل الأساطير الإغريقية منحول من حضارة الرافدين.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.